(1)
** كانت المسافةُ «خريفاً» غادره حرُّه.. و«شتاءً» اتصلَ قرُّه.. وبينهما حكاياتُ «الزمن».. تطوافٌ لا يقف..وحياةٌ لهدف.. ومنطقٌ يأسو ويقسو.. ويبحر ويرسو..فيرحل «الأسى».. ويبقى «التأسي»..
(2)
** لم يستطع «المطرُ» حجبَ «الحزن».. فكانت «القطرات».. ومعها العبرات :
هبوني أغضّ إذا ما بدتْ
وأملكُ طرفي فلا أنظرُ
فكيف استتاري إذا ما الدموعُ
نطقنْ فبُحْنَ بما أضمر..؟
«العباس بن الأحنف»
** ووري الثَّرى.. ولم يتوارَ عن الورى..
ودعته «عنيزةُ».. ودعتْ له..!
لم تكن هناك «صِحافةٌ» تمجِّد
أو «إعلانات» تعدِّد.. وتردِّد
أو «وفرةٌ» تأذنُ بالتذكير والتمدد.
لم أنسَ يوماً تهادتْ نعشه أسفاً
أيدي الورى وتراميها على الكفنِ
كزهرةٍ تتهاداها الأكف فلا
تقيم في راحة إلا على ظعنِ
«علي بن محمد بن هذيل البلنسي»
(3)
** مضى «الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي 1307 -1376هـ» إلى ربّه.. ومضى معه من كانوا شيوخاً.. ومعظم من كانوا كهولاً.. «شاخ الشباب»..واكتهل «الصبية».. وتتالت الأجيال.. وبقي الرمز والمثال..
سُبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها
مُنعنا بها من جَيْئةٍ وذهوبِ
«المتنبي»
(4)
** لم يخلده شارعٌ باسمه.. أو معلمٌ برسمِه.. فقد كفاه ما قدّم ليتقدّم.. وما بذل ليتسنّم.. وها هو -اليوم- بعد نصف قرن من المأتم.. يبني.. ويوجه.. ويُعلِّم..
عاش ما اهتم بدينارٍ ودرهمْ
مشرق النفس.. وضيئاً.. يتبسم..
(5)
** وسطيٌ قبل أن تؤدلج «الوسطية».. ومرب لم يحتج إلى «نظرية».. وعالم دقيق.. وداعية رفيق.. لم يكتف بالفتيا.. ولم تشغله الإمامة والخطابة.. ولم ينقطع «للدَّرس» و«الطِّرس».. بل كان فيها.. ومع سواها.. قاضياً بلا «منصب».. وإدارياً دون «مرتب».. ورجل برٍّ وخير وصلة.. يحل المشكلات.. ويسدد الثغرات والعثراتِ:
أرى طبَّ جالينوس للجسم وحده
وطبّ أبي عِمْران للعقل والجسم
«ابن سناء الملك»
(6)
** تعامل مع «الواقع».. وتفهَّم النوازعَ والدوافع.. فاتصل به المحسن والمسيء.. لم يخشه «مقصِّر».. ولم يظهر من تلاميذه «مُكفِّر» أو «مفجِّر» :
فيم تجنون على آبائكم
ألمَ الثُّكل شديداً في الكبرْ
وتعقُّون بلاداً لم تزلْ
بين إشفاقٍ عليكم وحذرْ
قاتلُ النفس ولو كانت له
أسخطَ اللهَ ولم يُرضِ البشر
«أحمد شوقي»
(7)
** لو اختصرت سيرة الشيخ.. لقيل عنه: عَلِم.. وعَمِل.. فأنارت مسيرته.. ورويتْ سيرته.. ينقلها الأجداد للأحفاد.. وتسعد بها البلاد والعباد..!
** عرف بعضنا الشيخ بإعجاب أبيه.. ودعوات «جدته».. وحكايات ناسه ممن تقدموا وجايلوه.. فرأوا بعين طفلٍ نابه.. أو شاب فاحص :
فأحسنُ وجهٍ في الورى وجهُ محسن
وأيمن كفٍ فيهِم كفُّ منعم..
«المتنبي»
(8)
** روى الوالد -حفظه الله- عن أحد أصدقائه حين كان صغيراً أن أباه دعا «الشيخ عبد الرحمن» لمنزلهم.. وفيه «مذياع» أداره الطفل -دون انتباه والده- على إحدى المحطات وهي تبث «أغنية».. فلم ينهره الشيخ أو يزجره وإنما اكتفى بمخاطبته بلطف، وطلبه إلى جانبه، وشرع في شرح أهمية المذياع ودوره «الإخباري» و«التثقيفي»، وأنه مثلما يستخدم لأمورٍ جيدة فإن فيه أموراً أخرى لا ينبغي الحرصُ عليها.. وكان درساً «تربوياً» بليغاً..
(9)
** ذكر أستاذنا الكبير عبدالرحمن البطحي - حفظه الله - نقلاً عن «والدته» أن زوجة الشيخ - رحمها الله - روت لها بشكل خاص أنه كان يحتاجُ فيبيع من «أواني» المنزل.. مشدداً على عدم إخبار أي أحد من أبنائه أو أقرب أقربائه، أو سواهم، واعتذر عن قبول مكافأة عرضها عليه «الملك» - حينها - مقابل «الإمامة» و«الخطابة» بجامع عنيزة الكبير..!
(10)
** في ندوة «مركز ابن صالح بعنيزة» عن «الشيخ» روى الأستاذ الدكتور عبد الله اليوسف الشبل أن «أحدهم» تحدث معه عن احتواء كتاب «كفاحي» لأدولف هتلر على إساءة «للعرب»، فسأله الشيخ: هل قرأت الكتاب بلغته الأصلية؟ وإذ نفى «المعترض» ذلك وأنه قرأ النسخة العربية رد الشيخ :
- إذن فاعلم أن الكتاب صدر «بالألمانية» ثم ترجم إلى «الإنجليزية» ومنها إلى «العربية»، وربما زيد عليه أو أبدل فيه، ومن الواجب «التثبت» قبل الحكم وخصوصاً أن «لهتلر» أعداءً لن يتورعوا عن تشويه صورته.. وفي هذا درسٌ «فكريٌّ» لمن يُصدرون «أحكامهم» على أساس: «يقال»، و«سمعنا»، و«هذا ما يراه الإخوان».. إلخ.
(11)
** في مراسلاته مع الشيخ عبد الله بن عقيل المجموعة في كتاب «الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة».. تحدث الشيخ عبد الرحمن عن عدم تكفيره «أهل البدع» «الجهمية والمعتزلة..» إلا «المعانِد»، ووردته «احتجاجات» حول فتواه من بعض طلاب العلم، وكان منهم من أغلظ له القول، فأجابه الشيخ بهدوء عجيب، وأضاف: ولم أناقشه في شدته، ولا حاسبته على ألفاظه غير اللائقة.. «حيث» زعم أن هذا التفصيل مخالف لمذهب الأمة، وأنه باطل متناقض، وأننا أتينا بمكفرات وطامات.. إلى آخر ما ذكر..
** وقد تساءل «الشيخ» في رسالته المؤرخة في غرة رجب 1362هـ: كيف يصدر هذا الكلام ممن ينتسب للعلم من دون أن يعرف ما عند صاحبه ومن دون أن نقابله..؟.. ثم يلتمس «عذراً» لهذا المتشدد فيقول: الظاهر أنه - إن شاء الله - ليس دافعُه الهوى لأني لا أعرفه ولا يعرفني ولم يجرِ بيني وبينه قبل هذا أدنى مكاتبة..
* وانقسموا إلى حزبين متطرفين وكادت تحدث فتنة لولا تدخله بحكمته ووعيه مما لا يسع المجالَ تفصيلُه..!
(12)
** رغم أنه من أوائل من ردوا على «القصيمي 1907- 1996» بعد إصداره كتابه «التحوليّ» «هذي هي الأغلال سنة 1946م» بكتاب أسماه: «تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله» فإنه تمنى له الهداية والرجوع إلى الحق.. ولم يستثرْ «السلطة».. ولم يحرِّض «الدهماء».. ولم يبك ضياعَ «الدين» أو اختلال القيم..!
(13)
** تجاوز بعلمه وعمله كلّ ما قيل أو يقال عن السلفيين من «تحجر» و«انغلاق» وغلظة.. ودعا إلى تعلم «العلوم العصرية» وأنكر من يقف أمامها وبيَّن أن هذه من علوم «الوسائل» التي تسندُ علوم «المقاصد»، وله «فتاوى» تدل على «سعة أفق» لا نزالُ دونها رغم كرِّ الأعوام.. وتضاؤل «العاميّة» و«العوام»..!
(14)
** ذكر حفيده الصديق أحمد العبدالله السعدي أن الشيخ وجد مع ابنه «محمد» - أمد الله في عمره - حين كان في «لبنان» كتاب «ديل كارينجي»: «دع القلق وابدأ الحياة».. فقال إن لدينا في الإسلام ما هو أفضل وأشمل، وكتب رسالته الذائعة «الوسائل المفيدة في الحياة السعيدة» التي قرأها وأعجب بها معظمنا في مرحلة «التكوين»..!
(15)
** روى من سافر معه أو رافقه في رحلاته من «سائقين» أو «مساعدين» أنه كان يتعمد طلب إيقاف السيارة - بشكل منتظم - والابتعاد قليلاً بدعوى قضاء الحاجة ليدع مجالاً لمن «يُدخن» منهم دون أن يشعر بالحرج أو المشقة..
(16)
** ولد صاحبكم.. وتوفي الشيخ.. فلم يره وعرفه.. ولم يعاصره وأحبّه.. ومضى الزمن ولم ينسه..
** يتجدد مع «التشدد».. ويتميز مع «التحيّز».. ويعلو مع «الغلو».. فهو «نموذج» «اليسر» في مسافات «العسر».. و«الانفتاح» في مدارات «الجمود» و«التطرف» و«الحِدّة» و«التعصب» و«التكفير»..!
** «إمام» من «قلب الجزيرة».. قدِّموه - إذا أنصفتُم - نموذجاً «للسلفيّة» و«الوهابيّة» و«التيميّة» و«الحنبليّة».. واطمئنوا فسيعرفُ الناس «الذين يُهمكم رأيهم» أننا «متسامحون».. «مرنون».. دون أن نحيد أو نزيد.. ولو شاء «الانتقائيون» و«الانتهازيُّون» و«الظلاميّون» غيرَ ذلك..!
- العقل لا يؤسر..!