لقد أعزّ الله سبحانه من شأن لغتنا العربية أيّما إعزاز عندما أنزل بها كتابه العزيز خير الكتب وأعظمها على نبيه الكريم خير البشرية صلى الله عليه وسلم، فهي لغة كتابه ولغة رسوله وبها نعيش في الدنيا، وبها نحاسب ويحاسب الخلائق في الآخرة فهي عزّنا وكرامتنا، وهي شطر ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا.
ورحم الله الشاطبي حين قال: «اللغة العربية نصف هذا الدين من أقامها فقد أقام الدين ومَنْ خذلها فقد خذل الدين» وكيف لا.. والقرآن إنما أنزل {بٌلٌسّانُ عّرّبٌيَُ مٍَبٌينُ}.
فهي أفضل اللغات قاطبة، وأقدرها على الاستيعاب وأمكنها على التعبير بشهادة أعدائها قبل أهلها.
تقول المستشرقة (هيرين سيركا) التي أسلمت بعد ذلك وتسمت باسم (فاطمة):
أرجو أن تفخروا بلغتكم، فهي أعظم اللغات بيانا وجمالاً، استعملوها في سائر مجالات حياتكم، وشجعوا أطفالكم على أن يفعلوا ذلك، ولا تهملوا أدبكم الرفيع. إن الله قد وهبكم هذه اللغة، فلا تتخلوا عنها، انشروها قدر إمكانكم».
واعتبرها المستشرق (جب) عماد الوحدة العربية، فقال: «إن من أهم مظاهر الوحدة العربية: اللغة العربية والحروف العربية، إنها لغة الثقافة الوحيدة».
ولقد حاول أعداء الأمة العربية على مرّ العصور النيل منها، فأعلنوا الحرب عليها، وراحوا يضربونها في أشدّ حصونها منعةً وتحصناً، وأعتى معاقلها إباءً وترفعاً، فقالوا إنها (عبادة) لا تصلح للتعامل مع الحياة، إنها لغة جامدة متحجرة، تقف عاجزة عن اللحاق بركب الحضارة والمدنية بعلومها وفنونها..
ونادوا باستعمال اللهجات العامية، واللغات الأوروبية بدلاً منها وهم يريدون طمس معالمها، ومحو وجودها، واقتلاعها من جذورها.. والعياذ بالله.
وليت الأمر وقف عند اعداء العربية من كفار العقيدة، بل تعداهم الى أهل القرآن والسنة أنفسهم ممن أغرتهم تلك الحجج فنادوا بها وطالبوا بتنفيذها، أو ممن تقاعسوا عن الوقوف في وجه هذه الهجمات الباغية المنكرة، وممن تخاذلوا عن مواجهة الحجة بالحجة، وعملوا على الذبّ عن لغتهم لغة القرآن، وإنْ لم يؤيدوا هذه الدعوات الهدامة. وبقي دورنا نحن تجاهها، دورنا في الحفاظ عليها بألا ننحيها عن مهامها الجليلة.
لقد اختار لنا المولي عز وجل هذه اللغة لتكون على مسامعنا وفي قلوبنا إذا صلينا أورتلنا القرآن ترتيلا أو عن ظهر غيب، لقد اختارها لنا مولانا لتكون لغة حديث رسوله صلى الله عليه وسلم ولغة حديثنا وأشعارنا وكتاباتنا، ولكننا نتجاهل ذلك كله، ونلوذ بالتخفيف منها والتيسير خشية الخطأ أو الملل.
فما لنا إذا قرأنا القرآن وجدناه سهلاً سلساً يفيض عذوبة وجمالاً.. ثم إذا أردنا الكتابة في مدارسنا أو مكاتبنا أو مصانعنا أو إبداعاتنا رحنا نستخدم قشور اللغة ونرضى بيسيرها دون جليلها وأعظمها؟
إننا نخشى مغبة الملل، ونخاف الفهم الخطأ ونتحاشى المفردات الغريبة حتى انفصلت لغة الكلام والكتابة عن لغة القرآن والحديث والشعر القديم. إن لغتنا لم تتقاعس عن استيعاب شتى مجالات الحياة ولكننا تقاعسنا عن فهمها والتعامل معها وهي الغنية الثرّة.
ونجح أعداؤنا في الدخول إلينا من هذا المدخل فضاعت من بين أيدينا ونحن المؤتمنون عليها، فنحيناها عن مجالات الحياة وأبعدناها عن كافة قطاعات التدريب والتصنيع وربما التعلم والتعليم إلا ما رحم ربي.. ونحن نقصد مجرد التخفيف والتيسير على السامع والقارئ والعالم والمتعلم ونخشى عليهم مغبة الملل أو الفهم الخطأ لمفرداتها ومعانيها.
ان لغتنا العربية هي أقدر لغات العالم على الاشتقاق وأعظمها ثراء وسعة في ألفاظها ومفرداتها ومرادفاتها، وأنفعها في وصف الثوابت والمتغيرات، وأدقها في ترجمة الأفكار والمعلومات.. وإلا فأتني بلغة فيها (للأسد) ما يفوق المئة مرادف، وللحية ما يربو على ذلك.. وغير ذلك كثير..!!
إن لغتنا الغراء لا تقف متعثّرة أمام بعض المسميات الحديثة من مخترعات أو أفكار أو ابداعات على الإطلاق، وإنما تستوعبها وتبلورها، وتسبغ عليها من فيضها فتحتويها مهما كان هذا المخترع أو الفكر أو الابداع أو أي شيء بعد.. إنه لغة تسمو وتتسامى، وتعلو وتتعالى، لم تعتزل في يوم من الأيام عن سواها من اللغات بل نافستها كلها وفاقتها.. ولم لا؟ وهي لغة الدنيا والآخرة؟
وكيف لا؟ وهي لغة القرآن الذي لا يفهم معناه، ولا يذوق حلاوته الا من تأدب بآدابها، وتمعّن في درسها وفهمها.
وكيف لا؟ وقد صلُحت لمن كان قبلنا فسادوا بها غيرهم ونشروها في بقاع المعمورة، فهي بعون الله صالحة لنا، وقادرة على القيام بمتطلبات حياتنا، ومعطيات عصرنا، وعليها قامت حضارتنا وستستمر بإذن الله ثرة معطاءة متطورة.
|