السر الخفي في الحضارة الغربية أنها حضارة متدينة يشكل الدين فيها المحور المهم والقائم بالدور الرئيس في صياغة الحياة والفكر والتماسك في المواقف بين الشؤون الداخلية والسياسية الخارجية تجاه الطرف الآخر. وبشكل لا يقاس به ما كتب عنهم في صحفنا وكتبنا وحتى على مقاعدنا الدراسية، حيث إن الذين نقلوا لنا الحضارة الغربية نقلوها إلينا بلا دين وصوروها بأنها كانت خالصة من سلطان الكنيسة، وهذا فيه الكثير من الجهل والخداع للقارئ، وقلة وعي من الكاتب بالنهضة الغربية، حيث أن الكاتب أو المثقف العربي يرى أن النهضة الأوروبية قامت من خلال الثورة في وجه الاستبداد الكنيسي (الثورة الفرنسية) وينسى حركة الإصلاح الديني ينسى البروتستانتية وينسى مارتن لوثر وما قام به كالفن، بل ويدرس تاريخ هذه الحضارة بعيداً عن حقيقته، حيث يتناول الجانب العلماني (فصل الدين عن الدولة) لا تاريخ الحركة الحضارية، حيث أن العلمانية في حياة الشعوب الغربية جزء من كل في نظامهم الحضاري الشامل، يقول الكاتب الصيني فانج ليزهي في كتاب - هدم سور الصين العظيم: «المفكرون الصينيون يعرفون بعض الشيء عن النهضة الأوروبية ولكنهم يعرفون قليلاً عن الإصلاح أو لأنهم يركزون على الأول ويقللون من الآخر وهذا التعامل جاء من قلة فهم التاريخ الغربي».
والذي حدث في الصين هو نفسه الذي حدث في البلاد الإسلامية عموماً والعربية على وجه الخصوص، حيث لا تعرض الثقافة الغربية كما هي فعلاً، بل يعرض منها الجانب المادي فقط ولا يذكر بالمقابل الفكر الديني أو الحياة الروحانية عندهم، والدول أو الحكومات الغربية عندما نهضت، قامت على فكرة علمانية الدولة بمعنى أنها تخلصت من سيطرة الكنيسة على الحكومات، السيطرة الاستبدادية وتحرير الأفراد من اضطهاد رجال الدين، ومع ذلك فلا يعني هذا إلحاد الحاكمين والأفراد أو أنهم ضد الدين، بل إن الحكومة مضطرة ولأطماعها السياسية والقومية أن تتصالح مع الدين لأنه هو الرابطة التي من أجلها ترخص الأرواح وتبذل الأموال وتفرغ الأوقات.لكن الذي فرض على المبتعثين ومن قبلهم المستشرقين آنذاك أنه لا ينبغي الحديث عن الإصلاح الديني ودور الكنيسة عند تسويق الحضارة الغربية في البلاد الإسلامية لأن الحديث عن الإصلاح الديني الأوروبي قد يجر إلى الاهتمام بالدين عند المسلمين، وذلك ما لا يتفق مع التوجهات الجارية حتى هذا اليوم لدي منظري السياسة الدينية في الحضارة الغربية إذ المطلوب من المفكر في العالم الإسلامي والعربي على وجه الخصوص أن يحارب الدين ويتنكر لدوره الأول في إنجاح الحياة، وعزة الشعوب واستقلاليتها، يقول خليفة المسلمين الفاروق رضي الله عنه: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله»، وبما أن الدين هو الروح المحركة والدافعة للعزة والكرامة والإخلاص فلا بد من إقناع الشعوب المسلمة عند تسويق الحضارة الغربية في البلاد الإسلامية بعدم أهمية الدين وأن ما وصلت إليه الحضارة الغربية هو بسبب إقصاء الدين عن الحياة اليومية وعزله في أماكن العبادات فقط، بل أنهم أوجدوا وكلاء لهم إبان فترات الاستقلال للبلدان الإسلامية من ربقة الاستعمار الغربي حيث أنشأوا جيلاً جديداً يجهل الإسلام بمعظم عقائده وشرائعه، وجاء من أحفادهم من هو أبعد تمسكاً بالإسلام من سابقيه وأكثر اندفاعاً وراء الحضارة المادية وأشد شغفاً بالثقافة الغربية حتى بلغ بهم الإنهزام الفكري حد الثمالة، وحينما أرادت الدول الإسلامية أن تستقل ورفعت فيها حركات التحرير رأسها كان الوريث هؤلاء فصاروا خلفاء المستعمرين في البلاد، وقد أدوا دورهم على أحسن حال حتى انتهي بهم الأمر إلى تشتيت شمل المسلمين باسم القومية ومزقوا جمعهم وفرقوا كلمتهم باسم الوحدة العربية، حتى وصل الأمر في وقتنا الحاضر أن جامعاتنا التي تدرس التاريخ الأوروبي لا تقف عند الأثر الروحي والأخلاقي الذي تبثه الكنيسة، فالكتب المترجمة أو التي تدرس عندنا عن فكرهم وحياتهم هي كتب منتقاة علمانية المشرب ودليل ذلك أن بعض من أكملوا دراساتهم الجامعية في الغرب كانوا متوسطي الالتزام بتعاليم الإسلام عند ذهابهم، لكن فوجئنا عند عودتهم أكثر التزاماً بالدين إبان ابتعاثهم وذلك أنهم رأوا مدى الالتزام الديني لدى الشعوب النصرانية ومدى احترامهم للملتزمين بدينهم مما شجعهم أن يكونوا أكثر تمسكاً بتعاليم الدين الإسلامي. والذي يهم معرفته في طبيعة العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي أن جوانب أساسية من الفكر الغربي نفسه هي جوانب يحرم الغرب تصديرها للخارج ويقف موقفاً شرساً ممن يفكر في تصديرها للبلاد الإسلامية ومنها الاهتمام بالدين ونشرة ووعية، فيسمح بالتجمعات الدينية والمشاريع التنصيرية ولا يسمح، بل ويحارب كل جهد إسلامي ولو كان إنسانيا إغاثيا لأنها تقلب الموازين الفكرية المطلوبة ومثال ذلك اللغة إذ يضيق على تعليم اللغة العربية ويحد من نفوذها لأنها لغة القرآن الكريم ولغة موروثاتنا العلمية وكذلك يحارب الوعي السياسي والحريات المبنى على المفهوم الصحيح كما ويحارب الصناعات الأساسية والدقيقة ويحارب الأمن الغذائي والنمو الاقتصادي، بل ويحارب الغرب ومن خلال برامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كل وسيلة يمكن أن تسمح باستقرار وعي صحيح بحقائق العالم المعاصر وأفكاره.. والله من وراء القصد.
|