يعيش العالم العربي والإسلامي شعوباً وأفراداً واقعاً معاصرا معقدا في ظل الأحداث العالمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتسارعة، والتي تحتاج إلى أنماط تفكير عليا لتشخيص كم وواقع تلك المعطيات الأكثر صعوبة وحسما. ويحسب ما تشير إليه الدراسات والدلائل المختلفة ان الشعوب العربية في تشخيصها لواقع الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية تبني أنماطها المعرفية والإدراكية بحسب ما تتمنى وأحياناً تعتقد لا بحسب ما يمليه واقع الحدث، بالرغم من محاولة تكييف النمط المعرفي ومسرح الحدث، إلا أنه يغلب التفكير ذو الطبيعة الأمنياتية والناتج من الطابع الثقافي السائد في سياق اجتماعي يبرر للمنطق الثقافي في حال النكسة أو يتبرأ من ذلك المنطق الثقافي إذا تطلب الأمر أو يشيد بالمنطق ذاته إذا بدر ما يعززه ليغدو المنطق الثقافي سلعة لحتمية الواقع.
والسبب الحقيقي وراء ازدهار سلعة فكر التمني هو غياب قضايا هامة عادة يتوجب قيام فكر الواقع المنطقي عليها لأنه بكل بساطة لن يستقيم الفكر بدونها، ومن أهم تلك القضايا: غياب الفهم الحقيقي لأصول المعرفة، غياب الطرق والمناهج والنظريات العلمية والموضوعية في البحث وتقصي الحقيقة مما يغيب الفكر عن حقيقة الواقع فيصل إلى الذاتية في التبرير والتفكير الأحادي، بناء فكر للواقع بحسب المنطق الثقافي، الميثاق الأخلاقي والفكري مفاهيمه تضع الناس بين حدين لا ثالث لهما مع وضد، غياب الفكر الناقد والحوار والقدرة الاستدلالية والواقعية بحجة فقد عظيم إذا فتح الباب على مصراعيه فالتفكير هو أسير لعدد من العقول وليس للكل والتبعية للجميع والحقيقة مطلقة في إدارة شئون الحياة وما يستجد في كل الأحوال، والمرونة قد تصارع من أجل البقاء.
في الأحداث السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية يظهر في الإعلام والقنوات المرئية العربية -كنموذج- أمثلة لواقع هذا النمط الفكري فنجد المحلل العربي في غالب حاله يحلل الواقع ويستشرف المستقبل بحسب ما يتمنى وبحسب الميل العاطفي لا بحسب الحدث والواقع بل يصل به الحد أحياناً بأن يراهن على تلك الأمنيات، وإذا صدم بالواقع انسلخ لأجناس التبرير الآنفة الذكر في بداية المقال. ونجد محللاً ومقدماً آخر يوجه الحوار والأسئلة حسبما يعتقد ويتمنى ان يراه كردة فعل من ضيفه ويتعدى الأمر إلى استضافة من يتفقون ووجهة نظره حتى وان كان النقاش عن رأيين مختلفين. ومن الصور المخجلة والتي تشخص جزءاً من الحقيقة المعرفية والإدراكية والفكرية للمجتمعات العربية ان شخصا بذاته يتحول إلى رجل موسوعي بين الفينة وأختها فتارة هو يحلل قضايا سياسية وبعدها دينية ثم ينط في برنامج الاقتصاد والأسهم ثم لا يلبث برهة حتى تراه يحقق في التاريخ والشعر ومن ثم يختم بعلم النفس. ومن الأخطاء التي يتوجها فكر التمني كتاج نحاس على رأس الفكر العربي هو التبرير ودعم فكر وأشخاص برغم الاعتقاد والادراك بأنهم جانبوا الصواب، ذلك لأنهم لا يتفقون مع من نكره، فبالتالي يصبح كل عملهم أبيض ولا مجال للنقد أو الحياد فنحن بين كماشتي مع الكل وضد الكل، ويصبح من نكره كلا متكاملاً ومتكتلاً من السلبيات المبررة وغير المبررة وبلا جانب مضيء واحد ولو بحجم الذرة.
من هنا خسر الإعلام العربي والفكر العربي كثيرا وبنتائج مؤسفة أمام أنماط التفكير الواقعي والذي تبناه الإعلام الغربي كثيرا في العديد من القضايا المختلفة وذلك لقرب محللهم من الفكر الواقعي وقرب محللنا من فكر التمني، ولقرب محللهم من مراكز ومؤسسات البحث والعلم فيأتي مملوءً ومن خلفه داعماً كماً هائلا من الدراسات والنتائج والتحقيق والذي هو غالبا امتداد لواقع وعلم وتوجه مؤسسات، ولقرب محللنا من الذاتية ونقل الخبرة الشخصية أو ما يمليه عليه سياقه الفكري الثقافي أو قصاصات ورق اجتهد في جمعها من هنا وهناك. يأتي محللهم بنمط فكري ناقد ايجابا وسلبا لنفسه والآخر ويأتي محللنا شاحذا همته لسلبيات الآخر ليبدو ملائكي المنظر وكأن أمر النقد الذاتي لا يعنيه ولايتصور نفسه موقف ومكان أحد بل الجميع يجب عليه تفهمه وهذا المهم، كما ان أي نقد قد يطالنا إعلاميا قد يخدش عزة آثمة في أنفسنا وكأننا براء من أي شيء فكما للغير سلبيات فلنا كذلك. هذا فقط كمثال في الجانب الإعلامي وإلا فالمجال أوسع نطاقا من ذلك فهو متعد إلى جميع مناشط الحياة المختلفة المدارة بفكر التمني.
أخيراً كم أتمنى ان أرى أريحية فكرية منضبطة بأصول وقواعد مبنية على منهجية علمية ومعرفية تستمد من أصول المعرفة في ثقافاتنا وهويتنا العربية الإسلامية وهذا حلم لا يستحيل تحقيقه بإذن الله ولكن يجب ان نعي أنه يحتاج لجهد وصبر.
للتواصل عبر البريد الإلكتروني
|