الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته وسار على نهجه.. أما بعد:
فإن الله أمر بالاستقامة والاعتدال ونهى عن الغلو والانحلال، فقال سبحانه لنبيه والمؤمنين معه: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فأمر بالاستقامة من غير طغيان، والطغيان هو الغلو الذي يخرج عن الاستقامة، كما انه نهى عن التساهل والاخلال في أمور الدين بالنقصان منه فقال سبحانه: {فّاسًتّقٌيمٍوا إلّيًهٌ وّاسًتّغًفٌرٍوهٍ} أي اطلبوا منه المغفرة لما يقع منكم من تقصير ومن إخلال بالاستقامة بالنقص من اتباع أوامره واجتناب نواهيه لأن الإنسان محل الخطأ والتقصير فهو بحاجة إلى الاستغفار من ذلك، وهذه الأمة وسط بين تساهل اليهود وغلو النصارى في العبادة.. قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } والتساهل قد يكون بترك الواجبات وفعل المحرمات واتباع الشهوات، والغلو هو الزيادة في التدين عن الحد المشروع مأخوذ من: «غلا القدر إذا ارتفع ماؤه وفار بسبب شدة الحرارة» ويقال: غلا السعر إذا ارتفع عن الحد المعروف، والغلو قد يكون في الأشخاص بأن يرفعوا فوق منزلتهم ويجعل لهم شيء من حق الله في العبادة كما غلت النصارى في المسيح عليه السلام فقالوا: هو ابن الله أو هو الله أو ثالث ثلاثة فعبدوه مع الله، ولهذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله» وكما غلا قوم نوح في الصالحين فعبدوهم من دون الله: { وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } وهذه أسماء رجال صالحين كانوا فيهم، ولهذا نهى نبينا صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو في الصالحين والبناء على قبورهم واتخاذ قبورهم مساجد لأن هذا يؤول إلى عبادتهم من دون الله كما نشاهده اليوم من بناء لأضرحة على القبور وعبادة الأموات من دون الله والاستغاثة بهم في الشدائد، وقد يكون الغلو في عبادة الله والتقرب إليه ولهذا قال تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ان ثلاثة نفر قال أحدهم أنا أصلي ولا أنام، وقال الثاني: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، غضب النبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ من فعلهم واستنكر ذلك وقال: «أما أنا فأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني» وقد يكون الغلو في الحكم على أصحاب الذنوب الكبائر التي هي دون الشرك فيحكم على أصحابها بالكفر والخروج من الملة كما فعلت الخوارج من هذه الأمة فكفروا أصحاب الكبائر التي هي دون الكفر والشرك وكما قال رجل ممن كان قبلنا لرجل يراه يرتكب بعض الذنوب فقال: والله لا يغفر الله لفلان.
فقال الله تعالى في الحديث القدسي: (من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك) وقد يكون الغلو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما حصل من الخوارج والمعتزلة حين غلوا في الإنكار على ولاة المسلمين فخرجوا عن طاعتهم وحملوا السلاح لقتالهم وشقوا عصا الطاعة وفرقوا الجماعة مما ترك آثاراً سيئة على الأمة.
وقد يكون الغلو في التقليد الفقهي والحزبي وذلك بالتعصب لآراء الأئمة حتى تجعل كأنها وحي منزل لا يجوز العدول عنها إلى الرأي الصحيح الراجح بالدليل كما هو حاصل من متعصبة الفقهاء، ومن القادة الحزبيين اليوم الذين يتعصبون لجماعاتهم وحزبياتهم ويحذرون ممن سواهم وان كان من سواهم على الحق، وقد يكون الغلو في الولاء والبراء فيظن أهل الغلو ان البراءة من الكفار تعني تحريم التعامل معهم فيما أباح الله مما فيه منفعة بدون مضرة ولا تنازل عن شيء من الدين وانها تعني الاعتداء على المعاهدين منهم والمستأمنين بتفجير مساكنهم وسفك دمائهم وقتل عوائلهم واتلاف أموالهم متناسين قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة» وقوله تعالى: {وّإنً أّحّدِ مٌَنّ المٍشًرٌكٌينّ اسًتّجّارّكّ فّأّجٌرًهٍ حّتَّى" يّسًمّعّ كّلامّ اللهٌ ثٍمَّ أّبًلٌغًهٍ مّأًمّنّهٍ} وقوله تعالى: {وّلا يّجًرٌمّنَّكٍمً شّنّآنٍ قّوًمُ عّلّى" أّلاَّ تّعًدٌلٍوا اعًدٌلٍوا هٍوّ أّقًرّبٍ لٌلتَّقًوّى"} وربما يحتجون خطأ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب» ولم يعلموا أولاً: ان هذا خطاب لولاة الأمور وليس خطاباً لعامة الناس، ولم يعلموا ثانياً ان الله أمر بإخراجهم بأمان لا بقتلهم وتفجير مساكنهم واتلاف ممتلكاتهم وعوائلهم، ولم يعلموا ثالثا: ان إخراجهم يعني عدم تمكينهم من السكن والتملك في جزيرة العرب ولا يمنع من استقدامهم وقدومهم للمصالح المتبادلة ثم يرجعون إلى بلادهم، إن الغلو داء خطير، وشر مستطير له آثار قبيحة منها:
1 انه يجر إلى الشرك بالله وذلك كالغلو في الأشخاص فإنه يفضي إلى عبادتهم من دون الله كما حصل لقوم نوح لما غلوا في الصالحين، كما حصل للنصارى لما غلوا في المسيح، وكما حصل لعباد القبور من هذه الأمة لما غلوا في الأولياء والصالحين فأصبحت قبورهم أوثاناً تعبد من دون الله في كثير من البلاد حتى آل الأمر إلى من أنكر ذلك يعد من الغلاة الذين يكفرون المسلمين.
2 انه يحمل على تكفير المسلمين وسفك دمائهم كما حصل للخوارج من هذه الأمة حتى قتلوا خيارها كعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وكثيرا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 انه يحمل على الخروج على ولي أمر المسلمين وشق عصا الطاعة وتفريق كلمة المسلمين كما حصل ويحصل من الخوارج على مدار التاريخ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من يفعل ذلك في قوله: «من جاءكم وأمركم جميع على واحد منكم يريد تفريق جماعتكم فاقتلوه كائناً من كان».
4 انه يزهد في السنة والوسطية والاعتدال، واعتبار ذلك تساهلاً في الدين والعبادة كما في قصة الثلاثة الذين تقالوا عمل النبي صلى الله عليه وسلم.
5 انه يحمل على القنوط من رحمة الله كما حصل من الذي قال: «والله لا يغفر الله لفلان».
6 انه يسبب الانقطاع عن العمل الصالح، وقد يحمل على الزيغ والانسلاخ من الدين فإن النفس تضعف مع شدة العمل وقد تعجز أو تمل من العمل فتتركه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم عن المتشدد في الدين: «كالمنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع» وقد رأينا من هذا نماذج في وقتنا الحاضر.
هذا ويقابل الغلو في خطورته وشره التساهل في ميوعته وضرره فالتساهل في أمور الدين لا يقل خطورة عن الغلو بل هو شر منه ولهذا قال تعالى: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً } وقال تعالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إلاَّ مّن تّابّ وّآمّنّ وّعّمٌلّ صّالٌحْا} فالمتساهلون يصفون المتمسكين بالدين والوسطية بأنهم متشددون وغلاة ومتطرفون ويرون الإباحية والتحلل من الدين والأخلاق تقدماً ورقياً وحضارة ويقولون ان التمسك بالدين فيه كبت للحريات وعائق عن الانطلاق مع الحضارة العالمية، وربما يقول بعضهم الدين يسر يريد بذلك التحلل من شرائعه ونقول: نعم الدين يسر في تشريعاته ورخصه الشرعية فهو يشرع لكل حالة ما يناسبها من حالة المرض والسفر والخوف والضرورة لأنه يسر في التحلل من احكامه فهذا ليس يسرا وإنما هو حرج وإثم والنبي صلى الله عليه وسلم «ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً» فالتيسير الذي يوقع في الإثم خروج عن سماة الدين وهديه، وشرور الانحلال من الدين أشد من شرور الغلو فيه وهؤلاء الجهال والمغرضون ليسوا هم الذين يبينون معنى الغلو وإنما الذين يبينون حدود الغلو والتطرف هم العلماء الأتقياء الراسخون في العلم على ضوء الكتاب والسنة لا الصحفيون وأصحاب الشهوات والجهال أو المتعالمون أو أهل الضلال والله جل وعلا يقول: {فّاسًأّّلٍوا أّّهًلّ پذٌَكًرٌ إن كٍنتٍمً لا تّعًلّمٍونّ} ويقول جل وعلا: {قٍلً هّلً يّسًتّوٌي الذٌينّ يّعًلّمٍونّ وّالَّذٌينّ لا يّعًلّمٍونّ إنَّمّا يّتّذّكَّرٍ أٍوًلٍوا الأّلًبّابٌ} فمتى خرجنا عن بيان أهل العلم إلى بيان أهل الأهواء وأهل الضلال أمعنا في الضلال والخطأ وإننا اليوم نسمع ونقرأ في وسائل الإعلام المختلفة أقوال من يتكلمون في أمور الدين وأمور الغلو والتساهل وهم لا يحسنون القول في ذلك إما عن قصد سيىء وإما عن سوء فهم يقولون حسب أهوائهم {وّلّوٌ اتَّبّعّ الحّقٍَ أّهًوّاءّهٍمً لّفّسّدّتٌ السَّمّوّاتٍ وّالأّرًضٍ وّمّن فٌيهٌنَّ} فيصفون التمسك بالدين بأنه تشدد ويصفون المتمسكين بالدين وبالعقيدة الصحيحة بأنهم متطرفون وغلاة وهكذا فالغالي يرى ان المعتدل متساهل والمتساهل يرى المعتدل غالياً ومتشدداً والحمد لله ان الله لم يجعل هؤلاء ولا هؤلاء هم الذين يحكمون في هذا الباب وتقبل أقوالهم وإنما وكله الله إلى العلماء الراسخين المعتدلين في حكمهم على ضوء الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح لأن الحكم بالغلو أو بالتساهل حكم شرعي تترتب عليه آثاره فلا يتولاه كل من هب ودب على حسب هواه لأن ذلك قول على الله وعلى رسوله بغير علم أو بهوى والعلماء ولله الحمد قد بينوا هذا ووضعوا ضوابطه قديماً وحديثاً في كتب العقائد وفي كتب التفسير وشرح الحديث وكتب الفقه والواجب ان يقرر ويدرس هذا الحكم الشرعي بضوابطه للطلاب في المدارس وحلق العلم بدلاً من تدريسهم اللغة الإنجليزية والتربية الغربية وان يتولى تدريس ذلك علماء أتقياء معتدلون ناصحون حتى يقضى على هذه الظاهرة المخيفة. وان يبعد المدرسون الذين ينشرون هذه الظاهرة التي انتشرت بين الطلاب وهي ظاهرة الانقسام والحزبيات والتراشق بالكلام والتهم لأهل العلم إلا من يوافق أهواءهم، وكذلك يقضى على الظاهرة المنتشرة في الفضائيات والشبكات العنكبوتية والصحف والمجلات من وصف المتمسكين بالدين بالغلاة والمتشددين والمتطرفين حتى وصل الأمر إلى وصف الأئمة المصلحين كشيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب بالغلو والتطرف، وإن لم يبادروا باجتثاث هذه الظاهرة من وسائل الإعلام بسرعة فسوف يكون لها عواقب وخيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نسأل الله أن يصلح شأن الإسلام والمسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
|