بالرغم من حادثة 12001/9/1 وحصول أزمات مالية ونقدية رئيسة في العقد الأخير، ما زال النظام المالي العالمي قويا ومتماسكا بل مزدهرا. فاجأت مناعة النظام معظم المهتمين بالشؤون المالية الدولية، وأكدت أن العولمة المالية قوية وباقية. في بداية سنة 2004، لا يمكن أن ننسى الأزمات النقدية الحادة التي عصفت بالمكسيك (1994/1995) وبدول شرق آسيا (1997/1998) وبروسيا والبرازيل وتركيا والأرجنتين وغيرها. كانت أزمات ميزان الحساب الجاري قاسية وأضعفت الثقة بالعملات الوطنية، بل سببت سقوطها وافلاس العديد من الشركات والمصارف. كما أحدثت هزات قاسية في الاقتصادين الحقيقي والمالي، بالاضافة إلى ركود كبير وبطالة مرتفعة. أكثرية المؤسسات في هذه الدول كانت تحمل أصولا بالعملات الوطنية وتستدين بالعملات الأجنبية، مما سبب سقوطها الكبير والسريع، أما حادثة 12001/9/1، فما زالت تؤثر سلبا على نمو حركة تنقل الأشخاص والخدمات والأموال والسلع، ولكن دون أن تحدث السقوط المالي الدولي الذي انتظره البعض. فبالرغم من المصاعب التي تواجه الاقتصاد الأمريكي، تجمع توقعات المؤسسات الدراسية والاستشارية الخاصة على أنه سينمو في حدود 4,3% في الربع الأول من هذه السنة و 4,2% و 4% و 3,8% تباعا في الفصول الثلاثة التالية. لا شك أن ضعف الدولار كان التطور النقدي الأساسي لسنة 2003، ولكنه عائد أصلا إلى رغبة الولايات المتحدة في التصدير، وبالتالي إلى قرارها ترك سياسة «الدولار القوي» التي اعتمدها الرئيس كلينتون في عهده. تجمع تقديرات القطاع الخاص على أن معدل سعر صرف الدولار تجاه اليورو لهذه السنة سيكون في حدود 1,2 دولار لليورو الواحد، أي استمرار اعتماد الولايات المتحدة على الطلب الخارجي لسلعها وخدماتها لانعاش اقتصادها. في غياب السياسة النقدية الأوروبية المقابلة بل المواجهة بسبب السياسة والمصالح والعلاقات الدولية والأوضاع العراقية، لا بد من القبول اليوم بواقعية هذه التنبؤات.
في مواجهة الأزمات النقدية الاقليمية والوطنية، اعتمدت المصارف المركزية المختلفة سياسة رفع الفوائد لتجنب انهيار سعر الصرف وبالتالي زيادة ثقل الدين العام الخارجي وخدمته في الاقتصاد، فارتفعت تكلفة الاستثمارات وضعف الاقتصاد الحقيقي وزادت البطالة، البديل الطبيعي لهذه السياسة النقدية كان الابقاء على فوائد متدنية للحفاظ على مستوى استثماري مقبول. إلا أن النتيجة البديهية كانت ستكون انهيارا جديدا في أسعار الصرف وفي ثقة المستثمرين الدوليين وزيادة في ثقل الدين العام تنعكس سلبا على الاقتصاد الحقيقي والنمو. للسياستين المذكورتين مساوئ كبيرة، وليست هنالك سياسة نقدية فضلى واضحة في ظروف أزمات عميقة كالتي شهدها العالم. حكمة المسؤولين عن المصارف المركزية تقضي باعتماد حلول وسطى، أي رفعا معتدلا للفوائد يمنع السقوط الكبير في أسعار الصرف ولا يضر كثيرا بنمو الاستثمارات. تكمن المشكلة في ضبابية هذه الحلول الوسطى التي ترتكز على كفاءة المسؤولين النقديين وحسن تقديرهم للسياسة وتوقيتها، في كل حال تبقى السياسات الوقائية التي تجنب البلاد الأزمات أفضل بكثير من المعالجات مهما كانت فاعلة. هنا يكمن دور المؤسسات الدولية في اعطاء النصائح والقروض الميسرة الكافية التي تجنب الدول النامية والناشئة الوقوع في أزمات مشابهة.
من ناحية أخرى ما زال تأثير حادثة 12001/9/1 على الاقتصاد الأمريكي كبيرا، اذ انقلب الفائض المالي السنوي عجزا بسبب تدني قيمة الاستثمارات الجديدة والضرائب وزيادة الانفاق على التسلح. فالنمو الذي من المتوقع أن يشهده الاقتصاد الأمريكي هذه السنة نابع من زيادة الانفاق العام وليس من الاستثمارات الخاصة، أي عودة إلى السياسات الكينيزية من قبل ادارة جمهورية كان من المتوقع لها أن تعمل العكس. كما أثرت الحادثة على علاقات أمريكا بمعظم دول العالم وساهمت في خلط المصالح الاقتصادية بالسياسية، وهو ما كانت تتجنبه الادارات الأميركية السابقة. «من ليس معنا هو ضدنا» كما كررها الرئيس بوش في ندواته الاعلامية وخطبه السياسية. سيطرة أمريكا على الاقتصاد العالمي مستمرة حكما بفضل غياب البديل الواقعي، كما بفضل حجم الاقتصاد الحالي الذي يعادل ما بين ربع وثلث الاقتصاد العالمي تبعا لطريقة احتساب المؤشرات الاحصائية.
بالرغم مما حدث، حافظ النظام المالي العالمي على حيويته وفعاليته ونجح في تسهيل النمو كما في محاربة بعض جوانب الفقر وإن كان بنسب متواضعة. مناعة النظام المالي العالمي أصبحت ظاهرة ومؤكدة ومرتكزة على عاملين رئيسين هما زيادة دولرة اقتصاديات الدول النامية والناشئة وانخفاض مؤشرات التضخم إلى نسب لم يشهدها التاريخ الحديث من قبل:
أولا: ساهمت زيادة دولرة اقتصاديات الدول النامية والناشئة في العقد الأخير في ربط نقد الدول النامية والناشئة أكثر بالعملات الرئيسة وخاصة الدولار بهدف تثبيت الاستقرار وتجنب الأزمات، فزاد معدل نسبة الودائع بالعملات الدولية من مجموعها في الدول العربية من 36,5% في سنة 1996 إلى 42% في نهاية سنة 2001. كما تحتل اقتصاديات الدول العربية المرتبة الثالثة في الدولرة لسنة 2001، أي بعد أمريكا اللاتينية (56%) وأوروبا الشرقية (48%) وتتبعهم أفريقيا (33%) وآسيا (28%) بينما تصل هذه النسبة في الدول الصناعية إلى 7% فقط، كما زادت نسبة الدولرة كثيرا في فترة 1996/2001 في المناطق التي عرفت خضات نقدية كبيرة وفي مقدمها أمريكا اللاتينية. تدل الدولرة المتزايدة في كل المجموعات النامية والناشئة على رغبة المسؤولين النقديين في حماية عملاتهم واقتصادياتهم عبر ربطها أكثر باقتصاديات الدول الغربية المتطورة. من المساوئ الرئيسة للدولرة التخلي عن استقلالية وحرية السياسات النقدية الوطنية وربطها بسياسات المؤسسات الغربية ذات المصالح والأهداف المختلفة. ففي الاقتصاد وكما نعرف جميعا «ليس هنالك غداء مجاني».
ثانيا: خلال السنوات العشر الماضية انخفض معدل مؤشر التضخم العالمي من 30% إلى 4% وتحديدا من 53% إلى 6% في الدول النامية ومن 3,8% إلى 2% في الدول الصناعية بفضل السياسات النقدية. فكان الانخفاض في أفريقيا في المدة نفسها من 40% إلى 11%، وفي آسيا من 10,5% إلى 2,6%، وفي أمريكا اللاتينية من 232% إلى 8% وفي الدول العربية من 30% إلى 13% وفي أوروبا الشرقية من 363% إلى 10%. ارتكزت الثقافة النقدية الجديدة على وقائع وسياسات وقوانين كان أبرزها استقلالية المصارف المركزية في الدول التي لم تكن تعرفها، أي في أوروبا الشرقية وجنوب آسيا. كما ارتكز النجاح في محاربة التضخم على ضبط السياسة المالية وبالتالي الانفاق العام وعلى الوعي لمساوئ الهدر المالي. كما كانت لزيادة الانتاجية النابعة من الثورة التكنولوجية الأثر الكبير في دفع عجلة اقتصاديات الدول النامية والناشئة. نذكر مثلا تدني مؤشر التضخم السنوي في الأرجنتين من 3080% في سنة 1989 إلى 4,2% في سنة 1994، ومن 2948% في البرازيل في سنة 1990 إلى 7% في سنة 1997. أما في القارات الأخرى، نذكر انخفاض التضخم من 1058% في بلغاريا في سنة 1997 إلى 2,6% في سنة 1999. وفي آسيا نذكر إندونيسيا حيث انخفض تضخمها السنوي من 58% في سنة 1998 إلى 3,7% في سنة 2000 وفي اسرائيل من 374% في سنة 1984 إلى 9% في سنة 1997. أما في أفريقيا وفي أوغندا تحديدا، انخفض مؤشر التضخم السنوي من 200% في سنة 1987 إلى 6% في سنة 1993.
أخيرا لن ننسى التأثير الايجابي الكبير لزيادة حجم وقيمة التجارة الدولية، كما لانفتاح وتحرير الاقتصاديات الوطنية، على المنافسة وبالتالي على الأسعار.
(*)www.louishobeika.com |