كثير ممن يكتب في التاريخ العام أو التاريخ الاجتماعي للجزيرة العربية يصم أذنيه عن النتائج الباهرة التي أسفرت عنها الكشوفات الأثرية التي كان آخرها ما أعلنت عنه وكالة الفضاء الامريكية على لسان أحد منسوبيها الدكتور (فاروق الباز) عن التقاط الاقمار الصناعية لمجرى نهري جاف طوله 850 كم يشق وسطها من الغرب الى الشرق مما يفتح الطريق امام عمليات جادة للبحث الأثري واحتمال ما يمكن أن يكون على ضفاف ذلك النهر من مواقع للاستيطان البشري المطمورة.
وهذه المعلومة تضاف على مئات الدراسات والبحوث الشاهدة بآثارها على أن الجزيرة العربية كانت مهدا لحضارات بشرية موغلة في القدم.
وقد أمدنا الرواد الأوائل من الرحالة الأجانب الذين وقفوا على تلك الآثار في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلاديين ولفتوا الانظار الى اهمية مشاهداتهم واستنتاجاتهم وقد أحسنت صنعا جامعة الملك سعود بتبنيها عددا من الدراسات الكشفية التي أدت إلى صحة استنتاج ما أشار اليه أولئك الرحالة الميدانيون، لكن المؤسف ان الكثرة الكاثرة من مؤرخينا المحليين وغيرهم من خارج الحدود ظلوا أبدا متمسكين بما أشارت إليه كتب التاريخ التقليدية المتاحة فيما يتعلق بديمغرافية السكان وجغرافية الأرض دون أية إشارة إلى ما أوضحته الدراسات والبحوث عن الآثار والمكتشفات الحديثة نسبياً، وما زالوا ولا زالوا يكررون ما يتحدث عنه علماء الاجتماع القدماء عن اصول المدنية الإنسانية في جزيرة العرب بكل اعتزاز يقرب من التقديس مثل الرأي الذي دونه (ابن خلدون) حول الإنسان والمجتمع، وأن البدو عنده أقدم من الحضر وأن البادية أصل العمران بناء على نظرية إن صحت في منطوقها فإنها لا تصح في مضمونها هي: أن البدو يقتصرون في معاشهم على الضروري وأن الحضر معنيُّون بحالات الترف والكمال في أحوالهم.
وقد أصَّل على ذلك (أن الضروري أقدم من الكمالي، فالضروري أصل والكمالي فرع) وهي نظرية منطقية تصح في مجملها لكنها غير علمية وغير دقيقة فيما يتعلق بنشأة البداوة والحضارة.
فالمعروف علمياً ونتيجة لدراسات موسعة ودقيقة أن البداوة على الأقل في الجزيرة العربية نشأت اختياراً لفئة من السكان بعد تزايد الجفاف قبل آلاف السنين، كما أن الاستقرار والتحضر هو خيار لفئة أخرى من السكان، حيث آثروا الاستقرار الدائم قرب منابع المياه ومناطق الاستيطان.
وهكذا بدأ التمايز بين نمطي السكان في الجزيرة العربية، نمط بدوي رعوي، وآخر استقراري زراعي ومختلط، وقد أكدت عدة كشوفات وجدت في أنحاء الجزيرة العربية على هذه الحقيقة باكتشافات آثار لمخازن الغلال يعود تاريخها الى الألف الثالثة قبل الميلاد، أي قبل زمن الجفاف وتزايده في الجزيرة العربية، الذي نتج عنه النمو المبكر للبادية التي اختارت التنقل والترحال تحت وطأة تلك الظروف غير الملائمة وذلك طمعاً في استمرار استغلال البيئة الآخذة في التناقص، وقد تمكنت نتيجة لتلك الرغبة من الانتفاع بالنباتات والحيوانات البرية وأتاح استخدام الجمل بعد استئناسه ومعرفة قدراته من خلال التعامل مع ذلك الحيوان ما جعل الحياة في البادية خلال ذلك التاريخ محتملة ومقبولة لدى تلك الفئة.
وقد أثبتت صحة هذه البداية شواهد اكتشفت من خلال أبنية بدائية ومجموعة من الآلات الحجرية وجدت فوق النتوءات الصخرية البعيدة عن آبار السقيا أو شبكات الوديان على صحة هذه الرؤية، لا سيما وقد عثر على تلك الآثار في مواطن لا زال البدو يفضلون سكناها، وهي آثار دلت على قلة السكان وإلى جانبهم تلك الأدوات السكنية البدائية وركامات قبور قليلة.
وإذا كان لنا أن نوجه ما أشار إليه ابن خلدون من أن البداوة كانت سابقة للحضارة، أنه كان يقصد الإنسان في أوائل سلم نموه، وحينما كانت المجتمعات البشرية في رحلتها الأولى مجتمعات صيد والتقاط، أخذت تتكيف تدريجياً وتقتات على بعض النباتات والحيوانات، ثم أخذت تلك المجتمعات تتحول إلى أماكن إقامة موسمية في مستوطنات دائمة، تزرع البذور والغلال في شكلها الاوليّ وترعى حيواناتها الأليفة.
وقد وجدت شواهد أثرية لا تقبل الشك في صحة هذا الاستنتاج.. لكنه انطلاقا من ذلك النمو وتكاثر السكان تشكل التفاوت الاجتماعي ومن ثم برزت أسس الحياة المدنية، وبشكل متدرج من حياة العصر الحجري التي تقوم على الصيد والالتقاط الى جانب الرعي، وقد وجدت في هضبة العرمة قرب مدينة الرياض شمالي الثمامة آثار حضرية عبارة عن موقع قرية ذات أسوار دائرية وبها عدد من أدوات طحن الحبوب، ورؤوس لرماح حجرية طويلة تدل - دون أدنى شك - على وجود حياة مزدوجة زراعية ورعوية مما لا يتفق مع القول بأن إنسان الجزيرة العربية جاء بدويا، وأن البداوة تعد اقدم نمط لحياته.
ويظهر لي أن اشتقاق كلمة بداوة وبدو جاءت من باب بدا يبدو بدوّاً. أي ظهر وخرج وتمايز، فالبداوة خروج وظهور على أسلوب ونمط قديم لحياة الاستقرار، وليست من البدء.
ولو رجعنا لما تدل عليه التفاتات البحوث والدراسات عن الجزيرة العربية منذ آلاف السنين لوجدنا أنها تتمتع بمناخ تتوفر فيه مستلزمات الحياة، وكانت الامطار تهطل على أرض الجزيرة في جميع فصول السنة، قبل أن يعم الجفاف وتتصحر الأرض، وما أودية الجزيرة الجافة إلا أنهاراً تغذي حياة مزدهرة عمادها الزراعة التي اكتشفها سكان الجزيرة العربية قبل غيرهم.
وعندما حل الجفاف بتلك الأرض أدى ذلك إلى موجات من الهجرة لسكان الجزيرة من الشعوب السامية القديمة إلى مناطق الجوار واختار من تخلف الاستمرار في الاستقرار، واختار آخرون حياة التنقل والرعي.
وقد دل على ذلك عدد من البحوث والدراسات التي أثبتت أن عددا من المواضع في الجزيرة العربية كانت مهداً لأولى الحضارات، كما أكد ذلك الدكتور أحمد سوسه في كتابه (حضارات بلاد الرافدين) وأن شبه جزيرة العرب هي مهد الحضارات السامية ووطن الساميين الأوائل.
وسكان الجزيرة العربية هم الذين ابتدعوا الاختراع في التاريخ القديم حيث اسسوا حضارة نهرية وإروائية، وأمدوا الحضارة بسبب هجراتهم المتتابعة قبل آلاف السنين بفيض من خبراتهم في تلك المجالات.
وفي دراسة علمية اجراها السيد فيلبي المعروف بعبدالله فيلبي حول نظام الري في مصارف عيون الخرج ولا سيما عين (فرزان) مبدياً دهشته من اتقانها وقدمها التاريخي في كتابه (قلب الجزيرة العربية).
وفي دراسة للباحث محمد عبدالقادر نشرتها جامعة الملك سعود عن تاريخ الجريزة العربية في مجلدين أثبت فيها أن الصلة العرقية بين المصريين القدماء والعرب كانت وثيقة، وكان كل منهما ينتمي الى سلالة البحر الابيض المتوسط، وهي السلالة التي انتشرت في بلاد العرب وغربي آسيا، وأكد أنه منذ العصور القديمة لم يتوقف سيل هجرة العرب الساميين إلى مصر.
وحتى نوضح ما تقدم فإن مصطلح العرب كان يشمل العرب البائدة وهم: (جرهم وعاد وأميم والعماليق وعبيل وثمود وطسم وجديس وحظورا) الذين عاشوا قروناً وأجيالاً في الجزيرة العربية كما يقول صاحب كتاب (المفصل في تاريخ العرب).
كما وجد مع أولئك وقبلهم في الجزيرة العربية مجموعات لم يشأ أن يدخلهم الإخباريون في عداد المجموعات العربية مثل الكلدانيين والكنعانيين والآراميين والسريانيين والآشوريين وغيرهم من الشعوب السامية القديمة الذين احتوت بقاياهم بدون حساسية العروبة بعد أن هذبها الإسلام.
وكذلك من كان يطلق عليهم اسم العرب العاربة وهم (المعينيون والسبئيون والقتبانيون والحميريون) الذين عاشوا في الجزيرة العربية أمداً قبل أن تشملهم تسمية العرب.. لأننا إذا تتبعنا التاريخ والآثار فإننا نجد أن اسم العرب كان محصوراً في الدلالة على سكان وسط الجزيرة العربية من العدنانيين ومن ألحق بهم من القبائل اليمنية التي نزحت من اليمن بعد انهيار سد مأرب قبل الإسلام بثلاثة قرون مثل (خزاعة وطيئ والأوس والخزرج والغساسنة والأزد والتنوخيين وقبيلة كندة الحضرمية) التي كان لها نفوذ في وسط جزيرة العرب قبل مائتي سنة من ظهور الإسلام.
وعلى الرغم من أن تاريخ الأمة العربية في الجاهلية لا يزال يحيط به بعض الغموض على كثرة ما يتحدث عنه مؤرخو العرب تبقى الأمة العربية من أقدم الأمم وممن لعبت دوراً في التاريخ القديم لا زالت الآثار والحقائق المؤيدة بالنقوش شاهدة عليه كتب ذلك مؤرخون غربيون أمثال (كوسان دوبر) وغيره، ومن أقدم المصادر عن العرب وتاريخهم التوارة لا سيما سفر التكوين، كما ألم كثير من المؤرخين الغربيين ولا سيما اليونانيين بأشياء كثيرة عن تاريخ العرب القديم.
والأمل معقود على ما يبذله المنقبون في النقوش الأثرية العربية بعامة وما يوجد في وسط الجزيرة العربية عن تاريخ أمتنا وحقيقة أدوارها المتعاقبة من خلال المكشوفات والمطمورات من الآثار، ولنا أسوة بغيرنا.. فقد كان تاريخ مصر وغيرها من البلدان المجاورة غامضاً لولا ما كشفت عنه الآثار والدراسات.
ومن المعروف انه توجد آثار كثيرة في الحجاز ونجد لا سيما في منطقة اليمامة تحتوي على نقوش بالقلم المسند، ونقوش آرامية بالقلم النبطي اهتدى إليها الباحثون وقصدوها لحل رموزها، وكشف النقاب عن الكثير من مكنوناتها.
وقد وجد في بابل نقوش بالخط المسماري عن تاريخ العمالقة من العرب البائدة، واستدل الباحثون من النقوش في آشور وبابل على قيام دولة حمورابي العربية التي استولت على بابل عدة قرون.
وإذن فلماذا نختزل تاريخ إنسان الجزيرة العربية ونعتقله في تلك الزاوية الضيقة، ونزعم ان البداوة أقدم نمط اجتماعي لذلك الإنسان؟ ولا نعي أن البداوة ليست أكثر من خيار ارتضته فئة من سكان الجزيرة لظروف دفع إليها تزايد الجفاف بعد خصوبة أرض الجزيرة منذ آلاف السنين.
لذلك نجد قبائل بكاملها لم تقبل خيار التنقل والترحال وبقيت في مستوطناتها الحضرية كقبيلة بني تميم وقبائل باهلة وفروع كثيرة من قبيلة حنيفة وقبيلة طيئ كالفضول وبني لام وغيرهما.
ودعك من القول الذي لا يستند إلى ما يدعمه من حقيقة من أن تلك القبائل ذابت أو اندمجت في قبائل أخرى.
كما كان الاستقرار والاستيطان خياراً لفئات من السكان العرب التي كانت تقيم في الجزيرة العربية وتسكنها قبل أن يتم الاتصال بعالم خارج الجزيرة.
ومن الملاحظ أنه في فترات متعددة من تاريخ هذه الجزيرة أنه عندما ينعم الناس بالأمن والرخاء، تحدث موجات تحضر وعودة وتخلٍّ عن حياة التنقل إلى حياة الاستقرار، وظلت تلك الموجات والعودة تزداد بازدياد الازدهار العمراني وتوفر أسباب الحياة الرغيدة حتى لا يكاد أن يوجد في مضارب البادية ما يمكن أن نطلق عليهم ذلك الاسم. حدث هذا في الدولة السعودية الأولى وفي الدولة السعودية الثانية، وفي الدولة السعودية الثالثة، ولا يستطيع مؤرخ أن يقول أن ذلك لم يحدث في أزمنة قبل ذلك التاريخ.
|