* عندما ارتفعت الطائرة في سماء مطار الحوية بالطائف؛ ثم استدارت آخذة وجهتها نحو الرياض؛ شاهدت عن يميني من جهة الشرق؛ تلك البقعة التاريخية العظيمة؛ التي تحفل بها كتب البلدان والتاريخ والأدب..إنها المكان الفسيح الذي يمتد منبسطاً عند ملتقى واديي شرب والأخيضر؛ على بعد 45 كيلا من الطائف.. هنا كانت تقام أعظم وأكبر وأشهر سوق عرفها العرب؛ في جاهليتهم وإسلامهم في الجزيرة العربية.. إنها (سوق عكاظ)؛ التي درست رسماً عام 132هـ، ولكنها بقيت اسماً حتى يوم الناس هذا.
* كنت أقلِّب بعض أوراق عن مهرجان الجنادرية؛ لكني ما لبثت أن استسلمت للرغبة في النظر والتمعن في مقر سوق عكاظ من أعلى؛ قبل أن يتوارى المشهد عن نظري، وفي جو كهذا؛ راحت مخيلتي تحدثني عن مشاهد (عكاظ) في ماضيها العريق؛ الذي كان باهراً سواء في سوقه التجارية؛ أو بما كان يقام فيه من منتدى سنوي للتحكيم والتشاور؛ والمفاخرة بالشعر والخطابة.
* هناك في قلب هذه السوق؛ كانت تنتصب خيمة جلدية حمراء مخصصة للشاعر (النابغة الذبياني)؛ أمير الشعر في السوق ذات عكاظ؛ أنشده الأعشى؛ فحكم له بالتفوق، ثم أنشدته (الخنساء) شاعرة سُليم؛ فشهد لها؛ لولا سبق الحُكم منه للأعشى..! وهذا هو قدر المرأة العربية على ما يبدو؛ تأتي تاليا عند قومها؛ حتى في الشعر..؟!!.
* يا لهذه الرمال الذهبية هنا بين الحجاز ونجد؛ كم هي غنية بالرؤى وبالذكريات الجميلة..! كانت شاهدة على المساجلات الشعرية التي سبق بها العرب غيرهم، فلم يكتشفها الغرب إلا بعد حين من الدهر، ففي العام 1985م، ظهر هذا الفن العجيب؛ في شيكاغو بولاية الينوي في أمريكا باسم: سلام بويتري SLAM POETRY، وكان ذلك على يد الشاعر مارك سميث.
* من هذه البطاح الفسيحة؛ خرجت المعلقات السبع الشهيرة، تلك التي كُتبت بماء الذهب؛ ثم علقت على أستار الكعبة المشرفة؛ تقديراً لمكانتها العلية؛ ولتفوق أصحابها. أعدت النظرة تلو النظرة؛ علِّي أرى (المحلق الكلابي)؛ ذلك الشهم الكريم؛ الذي ضافه الشاعر الأعشى؛ فأكرمه أيما إكرام، وأظهر عليه بتدبير ماكر من زوجته (!)؛ بناتٍ له لم يتزوجن بعد؛ فمدحه الشاعر الكبير قائلاً:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
على ضوء نار باليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها
وبات على النار الندى والمحرق |
* فكان الكرم والمكر (!)؛ والشاعر والشعر؛ سبباً في شهرة المحرق؛ وفي تزويج بناته جميعا على أرض عكاظ، غداة عشاء الشواء للأعشى..!
* لماذا الكلام على سوق عكاظ هذا؛ من ضيف (جنادري)؛ يصوب نحو العاصمة الرياض..؟!
* أعتقد بأن الجنادرية؛ التي تشهدها الرياض منذ تسعة عشر عاماً؛ تتجاوز ما يطلق عليها من أسماء يتكرر ذكرها كل عام، فهي تتعدى (البرنامج)؛ أو حتى (المهرجان الوطني)؛ إلى كونها (سوق عكاظية) معاصرة: تقام في قلب الجزيرة العربية، لأن شروط السوقالتي أرادها أو سنها العرب لأسواقهم الكبيرة مثل عكاظ؛ متوفرة بوفرة في الجنادرية؛ فهي كما رأيت وعرفت عن قرب؛ سوق للتراث والثقافة؛ وهي سوق للتجارة، وهي سوق للشعر فصيحه ونبطيه، وهي سوق للأدب والنقد والفن والمسرح، وهي سوق للسياسة والحوار، وهي سوق للفروسية والهجن والرياضة والسباق. وإذا لم يظهر فيها حتى اليوم؛ شاعر مثل الأعشى؛ أو شاعرة مثل الخنساء، ؛ أو محكِّم مثل النابغة؛ أو محلق كريم شجاع مثل المحلق الكلابي؛ فالذنب كما أرى؛ ذنب الناس؛ وليس ذنب سوق الناس..!!
* في الجنادرية كما شاهدت؛ رسالة حضارية مهمة؛ تتجاوز الهدف من إحياء موروث وتراث السعوديين؛ ومن ربط ناشئتهم بتاريخ أجدادهم؛ إلى هدف أكبر وأوسع؛ يتمثل في إعلام الآخرين من غير السعوديين؛ الذين يظنون أن التاريخ هنا في هذه البلاد؛ إنما بدأ مع حفر أول بئر بترول على أرضنا..! ثم تنبيه الغافلين كذلك؛ منا هنا أو من غيرنا؛ إلى أن تاريخنا هنا؛ لم يتوقف مع تدفق أول قطرة بترول..!
* أما البرامج المطروحة في مجالات الفن والمسرح خصوصاً؛ فهي في مجملها؛ توفر فرصاً ثمينة لمواهب سعودية واعدة ومبشرة؛ بعضها حوصر أو طورد أو ضُيِّق عليه؛ لكن أبواب الجنادرية المشرعة؛ شكَّلت له المخرج الحر الأمين؛ للظهور أمام الناس؛ والإعلان عن نفسه.
* وحينما يأتي (الأمير عبدالله بن عبدالعزيز)؛ في مقدمة الصورة الوطنية المبهجة؛ متصدراً المشهد الحضاري للجنادرية؛ وهو ولي عهد المملكة العربية السعودية، ورئيس المؤسسة العسكرية التي ترعى وتنظم هذه الاحتفالية السنوية، فهو بذلك يعطينا كمواطنين؛ المزيد من الاطمئنان؛ على أننا سوف نظل أمناء على إرثنا الحضاري؛ سعداء بعرضه واستعراضه وتقديمه؛ كعنوان يؤكد متانة الحاضر الذي لايستند إلى خواء؛ أو يركن إلى رمال مجردة؛ كانت قبل النفظ - كما صورها بعضهم في أدبياته -أرضاً جرداء لا زرع فيها ولا ماء..!
* تكمن قوة الجنادرية اليوم؛ فيما تعطيه من انطباع إيجابي لدى كثير من الناس في الداخل والخارج؛ فالحوار من حيث كونه مبدأ إنسانياً حضارياً؛ يلتقي عنده الفرقاء في هذه البلاد؛ بدأ في (زعمي)؛ قبل تسعة عشر عاماً؛ من هنا؛ من سوق الجنادرية في الرياض؛ ثم نما وترعرع واتسع؛ حتى أصبحنانشهد أولى ثماره في (مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني)، والأعمال الغنائية المطولة والملفتة؛ لم تكتمل كلمة ولحناً وأداءً وإخراجاً في شكل أوبريت غنائي؛ مثلما ظهرت على مسرح الجنادرية، مثلها مثل الأعمال المسرحية، وكذلك القصائد العربية ذات البعد الملحمي إن صح وصفي لها؛ حتى وإن لم ترقَ إلى درجة المعلقات؛ لكنها تظل تحمل صفة الشعرالرصين؛ الذي يذكِّرنا بماضي القصيدة العربية.
*الانطباع عند المتابعين خارج الوطن؛ يمكن قياسه من خلال ردود الفعل التي رأينا في وسائل إعلامهم، فالجنادرية قدمت المملكة إلى أصدقائها من عرب وعجم؛ بصورة عفوية بحتة، ليس من خلال الندوات واللقاءات الثقافية والحوارية فقط، ولكن من خلال الصور المشوقة التي يحبها الآخرون من خارج الوطن، لأنهم يرون فيها جديداً غير مألوف عندهم - بيت الشَّعْر - بيت الطين - الساقية- الحراثة- الدريس- المغزل- الربابة- الرقصة- وكافة المقتنيات الأثرية؛ التي تعرضها القرية الشعبيةعلى أرض الجنادرية؛ إلى جانب الفنون الشعبية كثيرة التنوع والمضامين؛ فهي ذات دلالة واضحة ومباشرة؛ تقدم قراءة محببة ومباشرة ومبسطة؛ لتراث غني مليء بما يدهش ويبهر حقيقة، ومن أغنى المشاهد دلالة هنا؛ مشهد العرضة النجدية؛ التي يحضرها الأمراء وكبار الشخصيات،ويرعاها ولي العهد (الأمير عبدالله بن عبدالعزيز).
* أعتقد أن المسرح والغناء والفنون الشعبية؛ مثلها مثل سباقات الهجن والفروسية؛ هي عنوان مهم لأي بلد من البلدان؛ أو شعب من الشعوب، وهي أعمال قيمة؛ تختزل المقالات، وتختصر الكلمات؛ ثم تطوي المسافات البعيدة؛ وهي تعبر المحيطات والقارات؛ إلى أكبر عدد من الناس على الكرة الأرضية، وهذا يتطلب الاهتمام بهذا الجانب أكثر من ذي قبل في سوق الجنادرية، وهو ما نتطلع إليه في المستقبل.
* إذا كان هناك من شيء أقوله في هذاالحيز الضيق هنا؛ فليس أكثر من ملاحظات قليلة عابرة؛ لعلها تصل إلى أنظار أو أسماع المسئولين والمنظمين في هذا المهرجان، وتتلخص في الآتي:
1- الندوات الثقافية - كما يبدو- لم تعد تحظى بالحضور المعهود في السابق، لا أدري عما إذا كانت قد فقدت بريقها بالفعل، فوجب إذن النظر فيها؛ من جهة المواضيع والأسماء المطروحة، وكذلك الزمان والمكان.
2- حبذا لو أعطيت الفرصة لعدد كبير من الضيوف من غير العرب والمسلمين؛ خاصة من أوروبا وأمريكا واليابان والصين، إلى جانب وجوه جديدة لكل عام؛ من ضيوف عرب ومسلمين؛ لم يسبق لهم استضافة.
3- أخيراً.. لقد أسعدني الحظ هذه المرة؛ فشاهدت مدينة الرياض من على ارتفاع (99 طابقاً) من برج المملكة؛ فما صدَّقت ما رأيت، من تنظيم وتوسع وعمران شاسع؛ يمتد على مساحة (6000 كيلاً مربعاً) كما ذُكر لي.. لكني في الحقيقة؛ شاهدت ما تعودنا عليه في كثير من مدن المملكة؛ فإلى جانب العمارات الكبيرة والصغيرة؛ توجد مساحات بين المباني؛ خاوية إلا من صنادق ومخلفات وسيارات مصدومة، وسطوح لا تخلو من عشش وزرائب وأدباش مهملة وأتمنى على الأمير الفذ؛ (سلمان بن عبدالعزيز)، الذي كرَّس كل وقته وجهده لعاصمة بلاده؛ أن يهتم بسطح الرياض، وأن يكثر من المساحات الخضراء بين المباني داخل هذه المدينة الكبيرة؛ التي خلتها وكأنها سوف تتحول تدريجياً؛ إلى غابة إسمنتية صلدة.
* وكل (جنادرية) جديدة؛ والجميع بخير.
fax:027361552
|