العمل قيمة اجتماعية نبيلة، تكاد تُجمع على ذلك معظم مدارس الدنيا المعاصرة، بعد أن شرَّعت الرسالات السماوية مبدأ العمل، وأبانت ضرورة عمارة الأرض، وأهمية تلك العمارة لحاضر الإنسان ومستقبله.
والعمل وسيلة ومنتج في الحين ذاته، فهو وسيلة مهمة جدا للإنتاج المجتمعي في الميادين كافة، وهو أيضاً منتَج لفكر مستنير يسبقه، يحمله الفرد أو تتبناه المؤسسة، وفي الحالين كليهما يجب أن يسبق العملَ فكر واعٍ ورغبة طموحة في ألا تمرّ الأزمنة دون أن يكون لمرورها أثر على واقع الناس والأشياء، يدلّ على أن الناس في هذا المكان كانوا يعملون ويجدُّون، وأن أمْسهم كان أقلّ حالا من يومهم، وأن غدهم يبشِّر بخير من الواقع المعاش.
من هنا يكون للعمل أهميته، ويكون للعاملين أثر يدعو للإعجاب والتقدير والاحترام، وإذا كان العمل منتجاً رائعاً للإبداع الفكري والمنهجي الذي يسبقه، فإن العامل المبدع هو من يجمع بين إبداعين: إبداع الفكرة، وإبداع المنتج.
هكذا يبدو تقدُّم شعوب العالم منذ أبينا آدم عليه السلام، فالعالم المتطوِّر ليس وليد صدفة، ولم يكن مجرَّد تجمُّع بشري، ولكنه عالَم أعطى للإبداع مجالا، وفسَّح للمبدعين أرضا رحبة يسرحون فيها ويمرحون بأفكارهم وبمنتجاتهم، حتى إذا ما آنسته فكرة ما تبنَّاها المجتمع جلّه، وحتى إذا ما آلفته محاولة جادة للفعل المجتمعي دعمها واختبرها.
ومن هنا استطاعت مجتمعات أن تنمو وتكبر وتسود، وظهرت مجتمعات حقَّقت خطوات مهمَّة جدا، لكن مشوارها الحضاري لم ينته بعدُ. في حين بقيت مجتمعات أخرى تحاول وتتمنَّى، غير أنها لا تزال تراوح مكانها، ناهيك عن مجتمعات بشرية ليس لها من نصيب المجتمع إلا حدودها السياسة وفناؤها الجغرافي، ولله في خلقه شؤون.
ويمكن النظر الى المجتمع السعودي باعتباره ينتمي الى النوع الثاني مما ذُكر، فقد قدّم نماذج رائعة من التطور على مختلف المستويات وفي حِقَب زمنية محدودة جدا، لكن المنتظر منه لا يزال أكثر والمتوقع أن يحقِّقه أوسع وأشمل.
ويشير استقراء واقع المجتمع إلى أن مردّ معظم مظاهر التنمية التي شهدها ويشهدها الى الجهود التي تبذلها الأجهزة الحكومية باعتبارها راعية التنمية الشاملة في المجتمع، مع شراكة مهمة وبخاصة في العقد الأخير من قِبَل مؤسسات القطاع الخاص، لكن الأفراد لا يزالون بشكل عام بعيدين عن تحمل مسؤولية الفعل المجتمعي، ومن غير المتصوَّر أن يُزاحم الأفراد المؤسسات، لكن المهمّ هنا هو دعم إبداع الأفراد، وإبداع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة؛ لأن هذه الكيانات عادة تعدّ بيئة ممتازة لتشكُّل الأفكار الإبداعية في صيغتها الأولى.
والفكرة الإبداعية ليست بالضرورة منتجا جاهزا، بل تحتاج إلى أن تنضج وتتلاقح مع غيرها؛ ولتحقيق ذلك لا بد من التسليم بأهمية الصبر في رحلة الإبداع، والإيمان العميق بأهمية البناء التراكمي للأفكار وللمنتجات المجتمعية. قد تكون اتكالية المجتمع على مؤسساته الكبرى، وتدني مستوى المشاركة الفردية والمؤسسية الصغيرة في فهم المجتمع والعمل على حمايته قد أوجدت فتُقا في النسيج المجتمعي يعوزه التفاهم المتبادل للأدوار؛ فتكوّنت بذلك كيانات مجتمعية لا تحمل بالضرورة همّ الوطن، وتعتقد أن رعاية الوطن وظيفة غيرها من المؤسسات، في حين انشغلت هي بمكاسبها الذاتية والآنية، وسيبقى هذا الباب مشرعا حتى يتم تشجيع الأفكار الإبداعية ودعمها من جانب، ومن جانب آخر حتى يؤمن كل من يعيش على تراب الوطن أن الوطن هو بيته وفراشه وغطاؤه، وأن رعايته وصيانته واجب شرعي ومتطلب حضاري رئيس.
(*) عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام
|