* الجزيرة - خاص:
قد يقع الإنسان في المعصية، ويستغفر فيتوب الله عليه ويستره، لكن أن يجاهر المسلم بالمعاصي ويتفاخر بها، مستهيناً بعقوبتها، فهذا ما لا يجوز للمسلم، لذا نهى الإسلام عن المجاهرة بالمعصية، مثلما نهى عن المعصية ذاتها، إدراكاً لما للمجاهرة من خطر يهدد عقيدة الإنسان العاصي، والمجتمع بأسره، فكيف تقاوم هذا السلوك المذموم.
بداية يؤكد الشيخ عبدالله بن صالح القصير الداعية المعروف على خطورة المجاهرة بالمعصية، والاستهانة بعقوبة الخطيئة، فيقول: إنها إثم كبير ووزر عظيم، يترفع عنها المؤمنون بالله، تعظيماً له، وإجلالاً له، وخوفاً منه، ورهبة وطلباً للعفو والعافية والستر والمغفرة في الدنيا والآخرة، ويقدم عليهما كل جهول ضال عن سواء السبيل، قد طغى وبغى، واتبع الهوى، وآثر الحياة الدنيا، ونسي أن جهنم لمن كان كذلك هي المأوى.
جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة.
وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره.
و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله..
آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
سلمان
والله سبحانه وتعالى قد ذم الأمم الخالية في العصور الغابرة ممن جاهر بالعصيان، واعتقد أنه بمأمن من مكر الملك الديان فأخذهم الله بالعذاب على غرة، وهم في غيهم يعمهون، وهكذا سنة الله فيمن عصاه، فإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته: {وكّذّلٌكّ أّخًذٍ رّبٌَكّ إذّا أّخّذّ القٍرّى" وهٌيّ ظّالٌمّةِ إنَّ أّخًذّهٍ أّلٌيمِ شّدٌيدِ}، {أّفّلّمً يّهًدٌ لّهٍمً كّمً أّهًلّكًنّا قّبًلّهٍم مٌَنّ القٍرٍونٌ يّمًشٍونّ فٌي مّسّاكٌنٌهٌمً إنَّ فٌي ذّلٌكّ لآيّاتُ لأٍوًلٌي النٍَهّى"}، {ولّقّد تَّرّكًنّا مٌنًهّا آيّةْ بّيٌَنّةْ لٌَقّوًمُ يّعًقٌلٍونّ}.
تحذيرات من الله تعالى
ويشير الشيخ القصير إلى تحذيرات الله سبحانه وتعالى لعباده في القرآن من المجاهرة بالمعاصي، موجهاً أنظارهم لمصير تلك القرون المهلكة من الأمم المكذبة، ليذكروا آلاء الله فيهم، ويتقوا مجالب سخط الله عليهم، لئلا يصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم من الملأ المستكبرين، وجموع المترفين وأتباعهم من المخذولين الخاسرين: {أّفّأّّمٌنّ أّهًلٍ القٍرّى" أّن يّأًتٌيّهٍم بّأًسٍنّا بّيّاتْا وهٍمً نّائٌمٍونّ، أّوّ أّمٌنّ أّهًلٍ القٍرّى" أّن يّأًتٌيّهٍم بّأًسٍنّا ضٍحْى وهٍمً يّلًعّبٍونّ، أّّفّأّّمٌنٍوا مّكًرّ اللَّهٌ فّلا يّأًمّنٍ مّكًرّ اللَّهٌ إلاَّ القّوًمٍ الخّاسٌرٍونّ}.
وقال بعض السلف رحمه الله: «بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً إلا عند سلوتهم ونعمتهم وغرتهم، فلا تغتروا بالله»، وفي الحديث: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معصيته ما يحب فإنما هو استدراج»، قال تعالى: {فّلّمَّا نّسٍوا مّا ذٍكٌَرٍوا بٌهٌ فّتّحًنّا عّلّيًهٌمً أّبًوّابّ كٍلٌَ شّيًءُ حّتَّى" إذّا فّرٌحٍوا بٌمّا أٍوتٍوا أّخّذًنّاهٍم بّغًتّةْ فّإذّا هٍم مٍَبًلٌسٍونّ}.
ويكشف الشيخ القصير عن صور للذين جاهروا بالمعاصي، والذين ذكرهم الله تعالى، بقوله: {قٍلً سٌيرٍوا فٌي الأّرًضٌ فّانظٍرٍوا كّيًفّ كّانّ عّاقٌبّةٍ الذٌينّ مٌن قّبًلٍ كّانّ أّكًثّرٍهٍم مٍَشًرٌكٌينّ}، وقال سبحانه: {أّلّمً يّأًتٌهٌمً نّبّأٍ الذٌينّ مٌن قّبًلٌهٌمً قّوًمٌ نٍوحُ وعّادُ وثّمٍودّ وقّوًمٌ إبًرّاهٌيمّ وأّصًحّابٌ مّدًيّنّ والًمٍؤًتّفٌكّاتٌ أّتّتًهٍمً رٍسٍلٍهٍمً بٌالًبّّيٌَنّاتٌ فّمّا كّانّ اللَّهٍ لٌيّظًلٌمّهٍمً ولّكٌن كّانٍوا أّنفٍسّهٍمً يّظًلٌمٍونّ}، مشيراً إلى نوعية الهلاك والعقوبات التي حلت بهؤلاء الذين يجاهرون بالمعاصي، وصدق الله العظيم إذ يقول معقباً على عقوبات الهالكين من الغابرين: {ومّا هٌيّ مٌنّ الظَّالٌمٌينّ بٌبّعٌيدُ}، أي من المخاطبين ومن يبلغه القرآن على مر القرون وتعاقب السنين، ويقول: {ولّقّد تَّرّكًنّا مٌنًهّا آيّةْ بّيٌَنّةْ لٌَقّوًمُ يّعًقٌلٍونّ}.
فقوة الله القاهرة، وحكمته الباهرة، وسنته الظاهرة، فيمن عصاه من القرون الغابرة، يعتبر بها العقلاء، ويتعظ بها السعداء، فيتوبوا إلى الله، ويرجعوا إليه قبل نزول البلاء، وعلى المسلمين أن يعتبروا بحوادث الزمان، ويسيروا النظر في معظم الأوطان، ليروا صدق ما توعد الله به في القرآن، وما جاء عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من عظيم البيان، فكم أهلك الله من المعاصرين، وكم أشقى في الحياة من الظالمين، من الأكاسرة والقياصرة وأمثالهم من الجبابرة، وكم أفنى من جموعهم الظاهرة الفاجرة، وكم بطش بالعديد من المجتمعات الآثمة السائرة في حياتها على نهج القرون المكذوبة الغابرة أخذهم الله أخذاً وبيلاً: {سٍنَّةّ اللَّهٌ فٌي الذٌينّ خّلّوًا مٌن قّبًلٍ ولّن تّجٌدّ لٌسٍنَّةٌ اللَّهٌ تّبًدٌيلاْ}.
أشكال العذاب
ومن العذاب المسلط من الله تعالى على المجاهرين بالمعاصي، أنه سلط بعضهم على بعض، فأخذوا مالهم، وانتزعوا الملك من أيديهم، وأجلوهم من الأرض؟ كما أرسل الله على بعضهم الطوفان، وابتلاهم بالعظيم من فتن الزمان؟ وأصاب الآخرين بالجدب وتوالي السنين وآخرين بجور الأئمة وأنواع الظلمة؟ وكم أهلك الله من قرية بالزلازل والخسف، وأخرى بالحروب الأهلية، وفرقة الصف وشدة الخوف، أما ظهرت في هذه العصور شدة المؤنة وكثرة المجاعات، وانتشرت في العديد من المجتمعات الأمراض المستعصية والأوبئة المروعة في شتى الجهات؟ أما ابتلى الله أوطاناً بالأعصاير الحسية والمعنوية المهلكة للحرث والنسل؟ وصدق الله العظيم إذ يقول متوعداً: {فّأّصّابّهٍمً سّيٌَئّاتٍ مّا كّسّبٍوا والَّذٌينّ ظّلّمٍوا مٌنً هّؤٍلاءٌ سّيٍصٌيبٍهٍمً سّيٌَئّاتٍ مّا كّسّبٍوا ومّا هٍم بٍمٍعًجٌزٌينّ }.
ويشير الشيخ القصير إلى ظاهرة التنكر للرسالة المحمدية، وتعظيم المعالم الشركية، وتحكيم الأوضاع الجاهلية، وظلم البعض للبعض، وأضاع كثير من المنتسبين للإسلام الصلاة، واتبعوا الشهوات، ومنعوا الزكاة، وانتهكوا حرمة الصيام، وحجوا إلى المشاهد الشركية كما يحجون إلى البيت الحرام، وأكلوا الربا، وتعاطوا الرشا، واستحلوا الزنى، وظهر فيهم التبرج والسفور، والكثير من محدثات الأمور، كما أعجب كثير من مثقفيهم بالدول الكافرة، وما فيها من القوانين الفاجرة، وخفي في كثير من مجتمعات الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقل الناهون عن الفساد، وفرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فصاروا أحزاباً وطوائف، هي في معظم ماهم عليه للكفار تبع، فتسلطت عليهم قوى الاستعمار، فاستباحوا الحرمات واحتلوا الديار، فعاثوا في الأرض الفساد، ولحق ضررهم بالحاضر والباد.
آثار عظيمة وقبيحة
أما الشيخ رضوان بن عبدالكريم المشيقح رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببريدة فيؤكد ان المعاصي والذنوب من الآثار القبيحة والمذمومة، والمضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة، ما لا يعلمه إلا الله تعالى، ويعد من الأمثلة الحية على آثار هذه المعاصي، حرمان العلم، فالعلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، ومنها: حرمان الرزق، كما في المسند أن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ومنها وحشة يجدها العاصي في قلبه لا يوازيها ولا يقارنها لذة، ولو اجتمعت له لذات الدنيا، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة، ومنها الوحشة التي تحصل بينه وبين الناس، ولاسيما أهل الخير منهم، ومنها أن المعاصي توهن القلب والبدن، وتقصر العمر وتمحق بركته، ومنها حرمان الطاعة، ومنها تعسير أموره، فلا يتوجه لأمر إلا وجده مغلقاً أو متعسراً عليه، ومنها أن المعاصي تولد بعضها بعضاً، حتى لا يستطيع أن يفارقها، كما قال بعض السلف إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
ومنها أيضاً أنها تضعف القلب عن إرادته، فتقوى إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئاً فشيئاً، وكذلك أنه ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له ولا كلامهم فيه، كما أن منها سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، قال تعالى: {ومّن يٍهٌنٌ اللَّهٍ فّمّا لّهٍ مٌن مٍَكًرٌمُ }، حتى ولو عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفاً من شرهم، إن العبد لايزال يرتكب الذنوب حتى تهون عليه وتصغر في قلبه، وذلك علامة الهلاك، والمعصية تورث الذل فإن العز كل العز في طاعة الله، وحرمان دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوة الملائكة، فإن الله سبحانه أمر نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، وانها تستدعي نسيان الله تعالى لعبده، وتركه بينه وبين نفسه وشيطانه، قال تعالى: {ولا تّكٍونٍوا كّالَّذٌينّ نّسٍوا اللَّهّ فّأّنسّاهٍمً أّنفٍسّهٍمً أٍوًلّئٌكّ هٍمٍ الفّاسٌقٍونّ}، وأنها تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بسبب ذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب، فأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر وإعراضه عن الله والدار الآخرة، وتعلقه بغير الله، وانقطاعه عن الله.
لا تتهاونوا في ارتكاب الذنوب
وينصح الشيخ المشيقح بعدم التهاون في ارتكاب الذنوب والمعاصي، فإن لها أضراراً، وان أضرارها في القلب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، فما في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي، ولا عقاب على الشعوب والدول إلا سببه الذنوب والمعاصي، والمجاهرة بها، فما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم اعجاز نخل خاوية، حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعاً، ثم أتبعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟ إلا المعاصي، وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العذاب والعقاب ودمرها تدميراً؟ وما الذي بعث على بني إسرائيل قوماً أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار، وقتلوا الرجال وسبوا الذرية والنساء وأحرقوا الديار ونهبوا الأموال.
المجاهرة بالمعاصي
من جانبه يحذر الشيخ عبدالله بن محمد اللحيدان مدير عام فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة الشرقية، فيقول: تخيل رجلاً قائماً على معصية لكنها بينه وبين ربه، فلا يكون في عمله إياها دعاية لها، فذنبها عليه غير متعد، وإن تاب فالله غافر الذنب، وقابل التوب، بينما آخر يشهر بنفسه وهو يعصي ربه، ويبرز تلك الجريمة حتى يفتتح عيون الغافلين عليها، وشوق قلوب الساهين عنها إليها، ويجرأ بذلك جوارح الخائفين لارتكابها، فهذا كم وكم جرماً قد ارتكب في حق نفسه؟
ومن هنا نتبين أن المجاهر بالمعصية هو الذي يفعل المعصية علانية، أو يهتك ستر الله لها بذكرها علانية بعد ان ستره الله مفتخراً، أو مستهيناً بستر الله له، أو يتحدث بالمعاصي وطلب فعلها، ولو لم يفعلها بنفسه، فكل ذاك مجاهرة بالمعصية، وإعلان مقيت لها، وهذه المجاهرة بالمعاصي تتم عن مرض قلب صاحبها وعدم حيائه من الله، بل هو المستخف بأمر الله وبرسوله -صلى الله عليه وسلم- وبصالح المؤمنين، وقد يكون هذا المجاهر قد أخذته العزة بالإثم، فأظهر المعصية كضرب من العناد، أو التحدي، وليته علم من ستكون عليه الدائرة عندما لايكتفي بمعصية خالقه، بل يمعن في إغضابه بالدعوة إلى معصيته فيعرض نفسه للحرمان من عفو ربه.
ويضيف الشيخ اللحيدان: وبهذا يتبين لنا عظيم شأن المجاهرة بالمعاصي، فالمعصية انتهاك لحرمة الشرع بلاشك، ولا يهون أمرها في قلب مؤمن ولكن قد يهون أمر محوها بالتوبة النصوح منها، ما دام أثرها قد زال، ولكن المجاهر بالمعصية على خطر عظيم من ملاحقة شؤوم المعصية له إلى يوم القيامة، قد يموت العاصي غير المجاهر وينتهي وزر معصيته بوفاته لانقطاع أثرها عنه، ولكن من قد نقل المعصية عنه غيره، وهو قد تكبد من أوزارها جرم مجاهرته بها واقتدائهم له، بفعلها وغيرهم قد اقتدى بهم، وهو الذي قد بذر شرها، فأي طريق طويل، وأي سلسلة ممتدة لا تنقطع من الأوزار قد تلاحق المجاهر وهو لا يدري.
ومن هنا تتضح الرؤية المبينة لخطورة الموقف إذ إن المجاهرة بالمعاصي هي إشاعة لها، والله عز وجل قد حذرنا من هذا السلوك أيما تحذير، فقال جل من قائل: {إنَّ الذٌينّ يٍحٌبٍَونّ أّن تّشٌيعّ الفّاحٌشّةٍ فٌي الذٌينّ آمّنٍوا لّهٍمً عّذّابِ أّلٌيمِ فٌي الدٍَنًيّا والآخٌرّةٌ واللَّهٍ يّعًلّمٍ وأّنتٍمً لا تّعًلّمٍونّ}، وكذا ما ثبت عن نبيه المصطفى محمد - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه».
وكما أن ضرر المجاهرة لاحق بصاحبها إلا أنه لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى المجتمع الذي يجاهر بالمعاصي ويعلنها فتختل القيم الدينية والأخلاقية فيه، مما يجعله عرضة لعقاب الله، ونزول الأوبئة والأمراض الفتاكة وظواهر الهلاك الجماعي، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله» رواه أحمد، وجاء من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قوله: -صلى الله عليه وسلم- «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا...» رواه ابن ماجه والحاكم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قالت: قلت: يارسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا ظهر الخبث»، وظهوره إنما هو بالمجاهرة بفعله وإعلان ذلك ونشره وإشاعته.
|