* إعداد - يوسف بن ناصر البواردي(*) :
حياتنا فتن ومجاهدة، وشهوات ومعركة، وميدان الشهوات كبير، والصراع فيه خطير، إنها معركة الإنسان مع الغرائز المستترة في أغوار النفس وطبيعة الإنسان، والهالكون من بني البشر في معركتهم مع هذا العدو كثير، والناجحون قليل قليل، فيجتمع للمنتصر في معركته هذه: إقامة المروءة، وصون العرض، وحفظ الجاه، وراحة البدن، وقوة القلب، وطيب النفس، ونعيم الفؤاد، وانشراح الصدر، وقلة الهم والغم والحزن وعز المكانة وصون نور القلب وكثرة الدعاء لك، ونضرة في الوجه ومهابة في قلوب العباد وزوال الوحشة وقرب الملائكة وبعد الشياطين وذوق حلاوة الطاعة وطعم حلاوة الإيمان وزيادة في العقل والفهم، وهكذا فضائل الدنيا وعظيم فضائل الآخرة.بهذه الكلمات افتتح فضيلة الشيخ محمد بن صالح المنجد امام وخطيب جامع عمر بن عبدالعزيز بالمنطقة الشرقية محاضرته القيمة التي بعنوان (الصراع مع الشهوة) واورد فضيلته كلاما نفيسا لمالك بن دينار قال فيه:
(من غلب شهوات الدنيا فذلك الذي يفرق الشيطان من ظله) وبيّن أنه لما كان طريق الآخرة وعرا على أكثر الخلق لمخالفته لشهواتهم ومباينته لإراداتهم ومألوفاتهم، قلّ سالكوها وزهّدهم فيها قلة علمهم أو عدمه بحقيقة الأمر وعاقبة العباد ومصيرهم وما هيئوا له وهيئ لهم فقلّ علمهم بذلك واستلانوا مركب الشهوة والهوى على مركب الإخلاص والتقوى، وتوعّرت عليهم الطريق وبعدت عليهم الشقة وصعب عليهم مرتقى عقباتها، وهبوط أوديتها وسلوك شعابها فأخلدوا إلى الدعة والراحة وآثروا العاجل على الآجل لوقالوا: عيشنا اليوم نقد وموعودنا نسيئة، فنظروا إلى عاجل الدنيا وأغمضوا العيون عن آجلها، ووقفوا عن ظاهرها ولم يتأملوا باطنها وذاقوا حلاوة مباديها وغاب عنهم مرارة عواقبها، ودر لهم ثديها فطاب لهم الارتضاع، واشتغلوا به عن التفكر في الفطام ومرارة الانقطاع وقال مغترهم بالله وجاحدهم لعظمته وربوبيته متمثلاً في ذلك: خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به.
فتنة النساء
بعد ذلك استعرض فضيلته تحذير الكتاب والسنة وأقوال السلف في فتنة النساء حيث يقول الله تبارك وتعالى:
{زٍيٌَنّ لٌلنَّاسٌ حٍبٍَ الشَّهّوّاتٌ مٌنّ النٌَسّاءٌ والًبّنٌينّ والًقّنّاطٌيرٌ المٍقّنطّرّةٌ مٌنّ الذَّهّبٌ والًفٌضَّةٌ والًخّيًلٌ المٍسّوَّمّةٌ والأّنًعّامٌ والًحّرًثٌ ذّلٌكّ مّتّاعٍ الحّيّاةٌ الدٍَنًيّا واللَّهٍ عٌندّهٍ حٍسًنٍ المّآبٌ } وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» ولقائل أن يقول: إذا كانت الشهوة بهذه الخطورة فلماذا خلقت فينا أصلاً؟! وأجاب فضيلته بقول شيخ الإسلام: «إن الله خلق فينا الشهوات واللذات لنستعين بها على كمال مصالحنا فخلق فينا شهوة الأكل واللذة به، فإن ذلك في نفسه نعمة وبه يحصل بقاء جسومنا في الدنيا، وكذلك شهوة النكاح واللذة به هو في نفسه نعمة، وبه يحصل بقاء النسل فإذا استعين بهذه القوى على ما أمرنا كان ذلك سعادة لنا في الدنيا والآخرة، وكنا من الذين أنعم الله عليهم نعمة مطلقة، وإن استعملنا الشهوات فيما حظره علينا بأكل الخبائث في نفسها، أو كسبها كالمظالم، أو بالإسراف فيها أو تعدينا أزواجنا أو ما ملكت أيماننا: كنا ظالمين معتدين غير شاكرين لنعمته» وهكذا« اقتضت حكمة اللطيف الخبير أو جعلت فيه بواعث ومستحثات تؤزه أزا إلى ما فيه قوامه وبقاؤه ومصلحته».
وقال فضيلته: «فتأمل كيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه وكيف اقتضت حكمته - سبحانه- خلق آدم وذريته من تركيب مستلزم لداعي الشهوة والفتنة وداعي العقل والعلم، فإنه سبحانه خلق فيه العقل والشهوة ونصبهما داعيين بمقتضياتهما ليتم مراده ويظهر لعباده عزته في حكمته وجبروته ورحمته وبره ولطفه في سلطانه وملكه».وخلص فضيلته إلى أن الشهوة نعمة أنعم الله بها على المخلوق، وإنما المحظور صرف الشهوة في المحظور وهي كذلك ابتلاء يبتلي الله بها عباده لينظر: إياه يطيعيون أو إياها.. وإياك من الانسياق في حبائل الشهوات المحرمة فإنها مهلكة.
مخاطر الانسياق
بعد ذلك تطرق الشيخ المنجد لمخاطر الانسياق وراء الشهوات، وبيّن أن أولها يتعلق بالوعيد الأخروي؛ حيث توعد تبارك وتعالى أهل الفجور والفساد بالعذاب الشديد يوم القيامة فقال تعالى:
{والَّذٌينّ لا يّدًعٍونّ مّعّ اللَّهٌ إلّهْا آخّرّ ولا يّقًتٍلٍونّ النَّفًسّ التٌي حّرَّمّ اللَّهٍ إلاَّ بٌالًحّقٌَ ولا يّزًنٍونّ ومّن يّفًعّلً ذّلٌكّ يّلًقّ أّثّامْا يٍضّاعّفً لّهٍ العّذّابٍ يّوًمّ القٌيّامّةٌ ويّخًلٍدً فٌيهٌ مٍهّانْا }
وقبل هذا العذاب يتعرض الزناة والزواني للعذاب في القبر، ويحدثنا صلى الله عليه وسلم عن شيء مما يعذب به هؤلاء في قبورهم فيصف ما رآه من تعذيب الزناة والزواني بقوله: قالا لي (يعني الملكين): انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، فإذا فيه لغط وأصوات فأطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا اتاهم ذلك اللهب ضوضوا - أي ارتفعت اصواتهم- وارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا فإذا خمدت رجعوا فيها، فقلت لهما: ما هؤلاء؟... قالا: وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني.
وعلق فضيلته على ذلك متعجبا !! هذا بعض ما يتعرض له الزناة من العقوبة فمن يطيق ذلك؟! وأي عاقل يعرض نفسه لهذه العقوبة؟! وليعلم الشباب والفتيات الذين لم يصلوا إلى ممارسة الفاحشة أن المقدمات النظر، الكلام، اللمس.. هي أول خطوة في طريق الفاحشة، وأن الجرأة عليها تقود إلى ما بعدها.
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها
من الحرام ويبقى الوزر والعارُ
تبقى عواقب سوء في مغبتها
لا خير في لذة من بعدها النارُ
وأكمل فضيلته طرح مخاطر الانسياق وراء الشهوات بأن كل شهوة تستدعي ما بعدها حتي يهلك الإنسان؛ فلقد أقسم الشيطان أمام الله تعالى أن يسعى لإغواء عباد الله مهما وجد لذلك سبيلاً:{قّالّ فّبٌمّا أّغًوّيًتّنٌي لأّقًعٍدّنَّ لّهٍمً صٌرّاطّكّ المٍسًتّقٌيمّ ثٍمَّ لآتٌيّنَّهٍم مٌَنً بّيًنٌ أّيًدٌيهٌمً ومٌنً خّلًفٌهٌمً وعّنً أّيًمّانٌهٌمً وعّن شّمّائٌلٌهٌمً ولا تّجٌدٍ أّكًثّرّهٍمً شّاكٌرٌينّ} مؤكداً أنه يسعى بكل وسيلة لأغواء العبد وإضلاله، وهو يعلم أنه حين يوقعه في معصية - ولو صغيرة- قد تقدم خطوة، وقد أصبحت الجولة التي تليها أهون من التي قبلها، لقد أخبر الله تعالى عن الذين فروا من المعركة في أُحُد، وكيف أوقعهم الشيطان في هذه الكبيرة التي هي من الموبقات بسبب بعض ذنوبهم - وقد غفر لهم تبارك وتعالى - فقال سبحانه:{إنَّ الذٌينّ تّوّلَّوًا مٌنكٍمً يّوًمّ التّقّى الجّمًعّانٌ إنَّمّا اسًتّزّلَّهٍمٍ الشَّيًطّانٍ بٌبّعًضٌ مّا كّسّبٍوا ولّقّدً عّفّا اللَّهٍ عّنًهٍمً إنَّ اللَّهّ غّفٍورِ حّلٌيمِ } كما أنه يسعى بكل وسيلة لإيقاعك في الصغيرة ، ثم يتدرج بك إلى الفواحش ثم يقول بعد ذلك: قد خسرْتَ الدنيا والآخرة فتمتع بما تشاء من الشهوات وخض في الوحل ليقطع عليك خط الرجعة. والمتأمل في الواقع اليوم يرى أن معظم الشباب والفتيات الذين ساروا في طريق الغواية والانحراف، كانت البداية لديهم من طريق هذه الشهوة.
سوء الخاتمة
وفي الطرح الثالث لمخاطر هذا الانسياق حذر الشيخ المنجد من سوء الخاتمة مشيراً لقوله صلى الله عليه وسلم: «فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار»؛ ولذلك كان السلف يخشون سوء الخاتمة، فقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح فقيل له: أكل هذا خوفاً من الذنوب؟! فقال: الذنوب أهون، إنما أبكي خوفاً من الخاتمة، كما أن التعلق بالشهوات واستيلاءها على القلب من أكبر أسباب سوء الخاتمة.
وما من أحد إلا وفي خاطره هم يجوس به يملك عليه مشاعره: فهذا همه الأصغر والأكبر الدينار والدرهم، وذلك همه الشهوات ومتعة النفس، لكن الآخر همه هناك في الدار الآخرة وإن فكر في الدنيا ففي حال الأمة وفي تقصيره وذنوبه وحين يحل بالإنسان الموت يتذكر ويبدو له ما كان يستولي على همه.
خروج المحبة
ويضيف فضيلته عنصراً مهماً من عناصر الخطورة وراء الانسياق وراء الشهوة ألا وهو أن قلب العبد وعاء لا يخلو من محبوب يرجى ويخاف فواته، والضدان لا يجتمعان فإن امتلأ قلبك بحب الشهوات، فهل يظن أنه سيبقى فيه مكان لمحبة الله ومحبة ما يحبه سبحانه؟ إنه خيار واحد فحدد مصيرك واختر طريقك، وإذا أردت محبة الله ولذة الإيمان فلن تحصل لك حتى تطهر قلبك من محبة ما يسخطه وإن تعلقت بغير الله، فأنى لك لذة الإيمان وحلاوة الطاعة؟!
ويؤكد الشيخ المنجد إلى أن الذين تستغرقهم الشهوة المحرمة يتحولون إلى عبيد لها تأمرهم فيطيعون، وتنهاهم فيخضعون، يقول ابن القيم رحمه الله- واصفاً حال أمثال هؤلاء: فلو خُيِّر بين رضاه ورضا الله، لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه وتمنِّيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، يُسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس ويجعل لربه من ماله - إن جعل له- كل رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه ووقته وخالص ماله وربه على الفضيلة قد اتخذه وراءه ظهرياً، وصار لذكره نسيا إن قام في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجي معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق، ينفر من طاعة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه، وتكلفه لفعلها، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحاً بها، خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها.
ويتابع فضيلته فيقول: وانظر في أشعار العاشقين والعاشقات لترى الأدلة على ذلك وأقرأ ما يكتبه هؤلاء من أبيات وعبارات وانظر أحوال كثير منهم وكيف جلب عليهم هذا العشق الشقاء والنكد، فهل يستحق هذا الهوى والغرام أن تختصر الحياة كلها فيه؟!
الأمراض والأوجاع
ويواصل الشيخ المنجد حديثه فيقول: إن من سنة الله تعالى معاقبة من عصاه في الدنيا قبل الآخرة ولمن يأتون الفواحش عقوبة من نوع خاص، فعن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (... لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا).
مشيراً فضيلته إلى أن هذه السنة مما تحقق في العالم فأهل الفجور والفواحش مهددون بالزهري والسيلان، والهربس والإيدز، وأضاف: وإليك شيئا من الإحصائيات المتعلقة بطاعون العصر (الإيدز) : يبلغ عدد الذين ينقل إليهم المرض يومياً على مستوى العالم عشرة الاف شخص، وفي كل دقيقة يصاب ستة أشخاص دون الخامسة بعدوى الإيدز، وفي عام 2000م لقي ما يقارب من ثلاثة ملايين شخص من حاملي المرض مصرعهم، وقد تسبب الإيدز في إضافة 2 ،13 مليون إلى قائمة الأيتام، ويقدر عدد المصابين به في عام 2000م ب 4 ،34 مليون، وآخر الإحصاءات تقدرهم الان بخمسين مليوناً ثلثهم من الشباب من بين (15 - 24) سنة. وآخر الإحصاءات تقدرهم الآن بخمسين مليوناً ثلثهم من الشباب من بين (15 - 24) سنة بقي أن تعلم أن 73% من المصابين بهذا المرض هم من الذين يعملون عمل قوم لوط.
الجزاء من جنس العمل
وأخيراً يذكر الشيخ المنجد الجزاء من جنس العمل في قائمة المخاطر فيبين أنها قاعدة شرعية وسنة لا تتخلف: أن يجزي الله العامل من جنس عمله، أتظن يا أخي أن من يطلق العنان لشهوته دون وازع أو ضابط، أتظنه يسلم من عقوبة الله؟! لا! فجزء يسير من عقوبته أن تنطبق عليه هذه القاعدة اسمع ما يقول الشافعي - رحمه الله-:
عفّوا تعِفَّ نساؤكم في المحْرم
وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنى دَيْن فإن أقرضته
كان الوفا من أهل بيتك فاعل
من يزن يُزن به ولو بجداره
إن كنت يا هذا لبيباً فافهم
واختتم فضيلته حديثه بالتأكد على أن من يتجرأ عن انتهاك عرض الآخرين معرّض أن يرى ذلك في ابنته أو أخته،
ومن لا يبالي بمحارم الله قد تخونه زوجته، ومن تتجرأ على ذلك معرضة أن تراه في بناتها ونسلها.