نشرت «الجزيرة» في عدد يوم الأحد 20 شوّال عام 1424هـ، في مكان بارز - وهي جديرة بذلك - كلمة خادم الحرمين الشّريفين في افتتاح دورة المجمع الفقهي السّابعة عشرة برابطة العالم الإسلاميّ بمكّة المكرّمة، الذي افتتح في يوم السبت 19 شوال 1424هـ. هذه الكلمة أحدثت صدى عميقاً في العالم، واهتمّ الساسة، ورجال الإعلام، في وسائله: المرئية والمسموعة والمقروءة بها، واعتبرت في هذا المؤتمر وثيقة مهمّة مهمة، بل هي توجيهات رائدة، واهتمام يجب الأخذ به في النّظرة الحاضرة لما يدور بالسّاحة من أحداث، وما أفرزت عنه هذه الأحداث من مستجدات داخلية وخارجيّة تهدف إلى النّيل من ثوابت الأمة، ومن الديِّن الإسلامي، نتاج جهل عن أبعاد تلك الأمور، أو بغزو فكري وراءه ما وراءه من أمور يراد جذب الأمّة إليها، حسبما قال الله سبحانه لنبيه والأمة تبع: {ولّن تّرًضّى" عّنكّ اليّهٍودٍ ولا النَّصّارّى" حّتَّى" تّتَّبٌعّ مٌلَّتّهٍمً} [البقرة: 120] . وكلمة خادم الحرمين الشّريفين فيها تحريك للعلماء في مؤتمرهم ـ وفي أي مؤتمر ـ إلى إدراك دورهم في التَّصدي للتحدّيات والزّحف الفكريّ الذي كان من دواعيه: أن اعتلى منبر الفتوى من لم يكن لها بأهل فضلّ وأضلّ، مصداقاً لما أخبر عنه صلّى اللّه عليه وسلّم بما كان يخشى منه على الأمّة. فهو - وفّقه الله - يذكّر العلماء بمثل هذا النص: «ولا يخفى عليكم ـ وأنتم علماء الأمة وفقهاؤها أن أمّة الإسلام تعيش اليوم في ظروف متغيرة، تحيط بها برامج عالمية جديدة، مرتبطة بتيارات العولمة، وتحدياتها الثقافية، والإعلاميّة والاقتصاديّة، وغيرها من التحديات التي تتطلب من الأمّة وعلمائها التَّعامل معها، وعلاج آثارها، واستيعاب برامجها وتطويعها لخدمة الإسلام الذي استوعب عبر التّاريخ المتغيّرات التي طرأت على حياة المسلمين، وقد أحسن علماء الأَّمة وفقهاؤها التّعامل معها، وتقديم الحلول لها، مستفيدين من يسر هذا الدّين، الذي تقوم قواعده على وسطيَّة أوجدت توازناً في العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، حاكماً ومحكوماً، غنيّاً وفقيراً». إن هذا التّنبيه من خادم الحرمين الشّريفين لعلماء الأمّة ما هو إلاّ ضوء أخضر لإدراك الوسطية التي وصف الله أمّة محمد صلىّ الله عليه وسلم بها في سورة البقرة، حيث استحقّت به الخيريّة بين الأمم قديمها وحديثها في إدراكها عمق ما تعنيه تعاليم دين الإسلام من سماحة ونبل، ومن استيعاب لمهمّة الفرد المناطة به، حيث أدرك الرّعيل الأول دلالة الوسطية بمنهج الصراط المستقيم، فلا اعوجاج المغضوب عليهم، ولا غلوّ الضالين، الذين يعبدون الله على جهل وضلال، وينقادون بجهلهم لمن يفتيهم بغير علم، فيفسدون في أنفسهم، ويسعون إرضاء لأعداء الله في إفساد مجتمعهم، تخويفاً وتضليلاً وتصدِّياً.. والله لا يحّب المعتدين. ولما كان ربّ العزّة والجلال، قد أوضح لرسوله صلّى الله عليه وسلم شموليّة دين الإسلام، الذي تحلّ تعاليمه كل معضلة، وتستوعب مبادئه كل حدث يطرأ، ليجد أُولو العلم والبصيرة حلاّ لمن يطرح شبهة، وجواباً لمن يعرض بسؤال، وفْق ما وهب الله العالم من قدرة وفطنة بسبب هذا التوجيه الكريم الذي يسد المنافذ: {ونّزَّلًنّا عّلّيًكّ الكٌتّابّ تٌبًيّانْا لٌَكٍلٌَ شّيًءُ وهٍدْى ورّحًمّةْ وبٍشًرّى" لٌلًمٍسًلٌمٌينّ } [النحل: 89] ووفْق هذه الدّلالة رسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأمَّته درباً ممهّداً، يبصرهم بطريق المنهج السّليم عندما قال ضمن حديث شامل: «إن الله قد حدّ حدوداً فلا تنهكوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم فلا تسألوا عنها». ولن يعجز علماء اليوم التبصّر في سيرة أسلافهم بكيفيّة التّعامل مع ما في المجتمعات الأخرى من أمور لم تكن معهودة لديهم، حيث كان منهجهم الذي يجب أن يُحتذى: هم رجال ونحن رجال، ولهم عقول ولنا عقول. وما يراد من علماء الأمّة اليوم ـ وفق ما يدور فيما حولهم، من تحدّيات وافدة في عصر العولمة ـ هو إدراك أبعاد ما تتجه إليه تيارات العولمة وتحدّياتها الثقافية والإعلاميّة والاقتصاديّة، وعرض ذلك على المحكّ السّليم، من مقاصد الشّريعة، وفق القاعدة الأصوليّة: الحكم على الشيء فرع من تصوّره.. وذلك بأخذ هذه الدعّوة التي وجّه إليها خادم الحرمين الشريفين بعد التّعمّق فيما تعنيه هذه التحديات، من فهم عند مشرعيها أولاً.. ثم تحليل الهدف والمغزى والنتيجة.. ورقة عمل، ترسم معالم الطّريق السّويّ. ومن ذلك تصاغ في قالب النّصوص الشّرعيّة، لرسم بديل في التطبيق، لأن قاعدة انطلاقهم غير قاعدة انطلاقنا.. ومطالبهم من وضع أمورهم تتباين مع مطالبنا مثل ما قال الله سبحانه وتعالى: {إن تّكٍونٍوا تّأًلّمٍونّ فّإنَّهٍمً يّأًلّمٍونّ كّّمّا تّأًلّمٍونّ وتّرًجٍونّ مٌنّ اللَّهٌ مّا لا يّرًجٍونّ} [النساء: 104] والمسلم مأمور بالتّعمق في دلالة مقاصد دينه، الذي جعله الله خاتم الأديان، وصالحا لكلّ زمان ومكان وتسعد به البشريّة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويعلم سبحانه عندما نزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ما سوف يجدّ في حياة الإنسان من فكر ومتطلّبات وما سوف يتفتق عنه عقل الإنسان من أمور مدى الدهر، فكانت عالمية دين الإسلام، تقتضي استيعاب ذلك: {ومّا يٍلّقَّاهّا إلاَّ الذٌينّ صّبّرٍوا ومّا يٍلّقَّاهّا إلاَّ ذٍو حّظَُ عّظٌيمُ } [فصلت: 25] ولئن قصّر بعض النّاس في إدراك البدائل لما يطرح من أفكار وثقافات وتحدّيات، وما سوف تحمله التيارات المتكاثرة، فأن العيب ليس في الإسلام: دين السماحة والنّبل، ودين الرحمة والتّعاطف، ودين الشّمول والحل، لكل معضلة.. فقد جاء في الحديث: «يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا، ولن يشادّ الدين أحد ألاّ غلبه». لكنه دين يدعو لإعمال الفكر، والتعمق في الفهم لتخرج الحلول لما يطرح، والبدائل النّافعة، لما يقال بغير نضج، أو يحمل تعدّيات على قدسيّة تعاليم ربّ العزّة والجلال. استمع إلى هذه الدّعوة الكريمة في كتاب الله: {فّاسًأّلٍوا أّهًلّ الذٌَكًرٌ إن كٍنتٍمً لا تّعًلّمٍونّ} [النحل: 43] وأهل الذّكر هم العلماء المتعّمقون في إدراكهم، المستوعبون لدلالة اللّغة التّي هي وعاء الدّين، ومقاصد الشّريعة، بعدم القصور أمام ما يطرح. وهذا ما يدركه القارئ الفطن لدلالة ما رمز إليه خادم الحرمين الشّريفين في الكلمة التوجيهيّة للعلماء في هذا المؤتمر الفقهي العالمي، وما أدركه المتابعون لما ترمي إليه من بعد نظر، حيث اعتبرها المؤتمر وثيقة من وثائقه التي تنبني عليها أمور شجّعها خادم الحرمين الشريفين، وأعطى الضوء الأخضر للمسيرة والمساعدة.
للبحث صلة
بناء القيروان: جاء في كتاب المغرب الكبير للدّكتور السّيد سالم أن الواقدي ذكر في كتابه «فتح إفريقية» أن موضع القيروان كان كثير الأشجار فاقترح أصحاب عقبة بن نافع في عام 62هـ عليه أن يحرقوه بالنّار، ويبنوا مكانه المدينة فقال لهم: يا قوم إن الوحوش والهوامّ ودوابّ الأرض كثيرة بهذه الأرض، وأخاف أن أحرقها بالنّار فيحاسبني ربي عزَّ وجلَّ عليها، ولكن إذا كان آخر النّهار أنادي في هذا الموضع بأعلى صوتي: أيتها الوحوشّ الساكنة في هذا المكان، ارحلوا منه، فإني أريد حرق أشجاره بالنّار، لأن المسلمين يريدون أن يبنوا فيه بلدة، لتستقر فيها رحالهم ونساؤهم، وجاءوا لنشر دين الله. وفي آخر النهار نادى عقبة رضي الله عنه الوحوش بالارتحال، فما أتم النّداء، حتى رفعت الوحوش أولادها في أفواهها من غزلان وذئاب ونمور وغيرها وبقي ينتظر خروجها مدة ثلاثة أيام، لم يكن دأب الناس فيها إلاّ الفرجة واللّعب، فلما كان في اليوم الرابع، أمر النار فأطلقت فأكلت الأشجار عن آخرها. وأتى إلى موضع القيروان اليوم، وركز رمحه وقال: هذا قيروانكم، ثم شرع عقبة بن نافع في اختطاط دار الإمارة، والمسجد الجامع، ولكنّه لم يقم به أيّ بناء، وكان يصلّي في أرضه، دون أن يكون فيه جدران، ويبدو أن النّاس، اختلفوا معه في تحديد الاتجاه الصحيح للقبلة، باعتباره أوّل المساجد الجامعة في هذا القطر المفتوح، وباعتبارها القبلة الأنموذج، التي تحتذيها سائر محاريب المساجد الجامعة في بلاد إفريقية، فأقاموا أياماً ينظرون إلى مطالع الشتاء والصيف من النجوم، ومشارق الشمس فلما رأى أمرهم قد اختلف بات مغموماً فدعا الله عزَّ وجلَّ أن يفرّج عنه فأتاه آتٍ في منامه، فقال له: إذا أصبحت فخذ اللواء في يدك، واجعله على عنقك، فإنك تسمع بين يديك تكبيراً، لا يسمعه أحد من المسلمين غيرك، فانظر الموضع الذي ينقطع فيه التكبير فهو قبلتك ومحرابك، وقد رضي الله لك أمر هذا العسكر، وهذا المسجد وهذه المدينة، وسوف يعزّ الله بها دينه، ويذلّ بها من كفر به، فعمل وكان قدوة لسائر المساجد في المدينة وما حولها (2: 204 - 206).
|