لقد جاءت الشريعة الإسلامية بحفظ الضروريات الخمس، التي لا يمكن أن تستقيم مصالح الدين والدنيا إلا بها، ولا يمكن أن تنتظم أحوال الناس والمعاش بدونها، إذ لو تخلفت كلها أو بعضها، لاختل نظام العالم، وعمت الفوضى، وحل الفساد، وسيطر الخوف، وتهتكت أروقة الأمن والاستقرار، ولحق الناس من الشقاء والبلاء بقدر ما تخلف منها.
والضروريات الخمس هي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وحفظ النفس أهم هذه المصالح بعد مصلحة الدين، بل لو عدمت النفس لعدم من يتدين ويقوم بعمارة الأرض، فلا يمكن للحياة أن تستقر وتستمر إلا بحماية النفس البشرية، ودفع أي اعتداء واقع أو متوقع عليها. ولذلك جاءت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة، تحرم الاعتداء على النفوس المعصومة بغير حق، وتحذر من ذلك تحذيراً شديداً، وتبين سوء عاقبته، وعظم عقوبة فاعله.
قال الله تعالى: {وّلا تّقًتٍلٍوا النَّفًسّ الّتٌي حّرَّمّ اللهٍ إلاَّ بٌالًحّقٌَ} [الإسراء: 33]، وقال تعالى: {وّمّا كّانّ لٌمٍؤًمٌنُ أّن يّقًتٍلّ مٍؤًمٌنْا إلاَّ خّطّئْا} [النساء: 92]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93].
فأي وعيد أعظم من هذا الوعيد؟! إنه وعيد تقشعر منه جلود المؤمنين، وتنخلع من هوله قلوبهم، ويوجد في نفوسهم رادعاً قوياً، ووازعاً ذاتياً، يمنعهم من التعدي على غيرهم، وإزهاق نفوسهم ظلماً وعدواناً.
ولقد قرن الله القتل بغير حق، بالشرك بالله، في غير ما آية في كتابه، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) (الفرقان:68) يٍضّاعّفً لّهٍ العّذّابٍ يّوًمّ القٌيّامّةٌ وّيّخًلٍدً فٌيهٌ مٍهّانْا} [الفرقان: 68 - 69]، وقوله: {قٍلً تّعّالّوًا أّتًلٍ مّا حّرَّمّ رّبٍَكٍمً عّلّيًكٍمً أّلاَّ تٍشًرٌكٍوا بٌهٌ شّيًئْا} إلى قوله {وّلا تّقًتٍلٍوا النّفًسّ الّتٌي حّرَّمّ اللّهٍ إلاَّ بٌالًحّقٌَ} [الأنعام: 151]. قال ابن حزم في «المحلى» 10/342: (لا ذنب عند الله عز وجل بعد الشرك، أعظم من شيئين. أحدهما: تعمد ترك صلاة فرض، حتى يخرج وقتها. والثاني: قتل مؤمن أو مؤمنة عمداً بغير حق).
وقال الشافعي كما في «مختصر المزني» ص: 310: (ولا شيء أعظم منه «يعني القتل بغير حق» بعد الشرك).
بل لقد جعل الله قتل نفس واحدة بغير حق، كقتل الناس جميعاً، وإحياءها كإحياء الناس جميعا، فقال تعالى بعد أن ذكر قصة قتل ابن آدم لأخيه ظلماً وعدواناً : {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة:32) } [المائدة: 32]. ففي هذه الآية: تغليظ أمر القتل، والمبالغة الشديدة في الزجر عنه، وتوكيد لحق الحياة الإنسانية، حتى لا يضار فيها أحد بغير حق.
وقد اختلف المفسرون في المراد بهذا التشبيه: فقيل: المعنى: أن من قتل نفساً، فيلزمه من القود والقصاص، ما يلزم من قتل الناس جميعاً، ومن أحياها، أي: أنجاها من مجاعة أو غرق أو حرق أو هلكة، أو عفا عمن استحق قتله قصاصاً.
وقيل معناه: أن من قتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيماً، ولو قتل الناس جميعاً فجزاؤه مثل ذلك. وقيل: المعنى: أن من قتل نفساً، فالمؤمنون كلهم خصماؤه، لأنه قد وَتَر الجميع، ومن أحياها، فكأنما أحيا الناس جميعاً، أي: يجب على الكل شكره، وكأنما منّ عليهم جميعاً.
انظر: تفسير القرطبي 6.147، وتفسير ابن كثير 3/87 وفتح الباري 12/192، وفتح القدير 2/34.
وقال الشوكاني في «فتح القدير» 2/34: والمراد بالتشبيه في جانب القتل: تهويل أمر القتل، وتعظيم أمره في النفوس، حتى ينزجر عنه أهل الجرأة والجسارة.
وفي جانب الإحياء: الترغيب إلى العفو عن الجناة، واستنقاذ المتورطين في الهلكات.
وقال ابن القيم في «الجواب الكافي» ص:174: وقد أشكل فهم هذا على كثير من الناس، وقال: معلوم أن إثم قاتل مائة، أعظم عند الله من إثم قاتل نفس واحدة، وإنما أتوه من ظنهم أن التشبيه في مقدار الإثم والعقوبة، واللفظ يدل على هذا.
ولا يلزم من تشبيه الشيء بالشيء أخذه بجميع أحكامه.. فإن قيل ففي أي شيء وقع التشبيه بين قاتل نفس واحدة، وقاتل الناس جميعاً؟ قيل في وجوه متعددة:
أحدها: أن كلا منهما عاصٍ لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ـ مخالفٌ لأمره، متعرضٌ لعقوبته، وكلٌ منهما قد باء بغضب الله ولعنته، واستحقاق الخلود في نار جهنم، وإعداده له عذاباً عظيماً، وإنما التفاوت في دركات العذاب، فليس اثم من قتل نبياً أو إماماً عادلاً أو عالماً يأمر الناس بالقسط، كإثم من قتل من لا مزية له من آحاد الناس.
الثاني: أنهما سواء لاستحقاق إزهاق النفس (أي: القتل قصاصاً).
الثالث: أنهما سواء في الجرأة على سفك الدم الحرام، فإن من قتل نفساً بغير استحقاق، بل لمجرد الفساد في الأرض، أو لأخذ ماله، فإنه يجترئ على قتل كل من ظفر به، وأمكنه قتله، فهو معادٍ للنوع الإنساني.
ومنها: أنه يسمى قاتلا أو فاسقاً أو ظالماً أو عاصياً بقتله واحداً، كما يسمى كذلك بقتله الناس جميعاً.
ومنها: أن الله سبحانه جعل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم، كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، فإذا أتلف القاتل من هذا الجسد عضواً، فكأنما أتلف سائر الجسد، وآلم جميع أعضائه، فمن آذى مؤمناً واحداً، فكأنما آذى جميع المؤمنين، وفي أذى جميع المؤمنين، أذى جميع الناس، فإن الله يدافع عن الناس بالمؤمنين الذي بينهم، فإيذاء الخفير، إيذاء المخفور.
وأما السنة النبوية فقد حفلت بنصوص كثيرة تشنع أمر القتل، وتتوعد فاعله، وتبين سوء عاقبته، وشؤم فعلته، وبشاعة جريمته، ومنها ما يلي:
1- حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) رواه البخاري ومسلم. ففي هذا الحديث تغليظ أمر الدماء، وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة، وذلك لعظم أمرها وشدة خطرها.
قال ابن حجر في «فتح الباري» 11/397 في الحديث عظم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الانسانية غاية في ذلك.
2- حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لن يزال المؤمن في فُسْحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً) رواه البخاري.
والفسحة هي المهلة والسعة، والمعنى: انه يضيق عليه دينه بسبب الوعيد على من قتل مؤمنا متعمداً بغير حق.
قال ابن العربي كما في «فتح الباري» 12/188: الفسحة في الدين: سعة الأعمال الصالحة، حتى إذا جاء القتل ضاقت، لأنها لا تفي بوزره.
فالقتل يأكل الحسنات، ويتلف الاجور والاعمال الصالحات، وربما عند المعادلة لا تقوم أجور صلاته وزكاته وسائر طاعاته بإثم القتل بغير حق، فيكون من الخاسرين. ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) رواه مسلم.
3- حديث البراء بن عازب رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لزوالُ الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق) رواه ابن ماجه، له شواهد عن جماعة من الصحابة عند الترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم، وقد صححه السيوطي والألباني. وفي هذا الحديث تغليظ أمر القتل وتهويل شأنه، وفيه التنبيه على أن هذه الدنيا التي يتقاتل الناس من أجلها لا تساوي بكل ما فيها من مال ومتاع، وكنوز وجواهر قتل مؤمن واحد ظلماً وعدواناً.
4- قوله صلى الله عليه وسلم: (كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يقتل المؤمن متعمداً، أو الرجل يموت كافراً) رواه أبو داود والنسائي، وصححه السيوطي وغيره.
كل هذا التهديد والوعيد، والتحذير الشديد، جاء في تحريم القتل بغير حق، وهو أعظم زاجر للمؤمن عن مقارفته والاقدام عليه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان قيْدُ الفتك، لا يفتك مؤمن) رواه أبو داود، وحسنه السيوطي وغيره.
والفتك: هو القتل على حين غفلة وغِرّة. ومعنى الحديث: أن الإيمان يمنع المؤمن ان يقتل أحداً بغير حق، ويقيده عن الاقدام عليه، كما يمنع القيد صاحبه عن التصرف.
ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر في تعظيم شأن الدماء، وبيان خطرها، بل أكد حرمتها، وغرس في النفوس اجلالها وتعظيمها، بمقارنتها بما أجمع المسلمون على إجلاله وتعظيمه، وهو البلد الحرام والشهر الحرام، وكان ذلك في يوم مشهود، ومكان مبارك، ومجمع عظيم شهده ما يزيد على مائة ألف مسلم، وذلك في حجة الوداع حين خطب الناس يوم النحر بمنى.
ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع: (ألا أي شهر تعلمونه أعظم حُرمة؟ قالوا: ألا شهرنا هذا. قال: ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا بلدنا هذا. قال: ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا يومنا هذا. قال: فإن الله تبارك وتعالى قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت ثلاثا؟ كل ذلك يجيبونه: ألا نعم. قال: ويحكم أو ويلكم، لا ترجعن بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) متفق عليه. بل لقد دلت السنة النبوية على أن التعدي على الحيوان بازهاق روحه ظلما وعدواناً، جريمة يستحق فاعلها دخول النار. ففي الصحيحين عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (دخلت امرأة النار في هرّة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض) وفي رواية لهما: (عذّبت امرأة في هرة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار. لا هي أطعمتها وسقتها، إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).
فإذا كانت هذه عقوبة قتل الحيوان بغير حق، فكيف بقتل الآدمي المعصوم، فكيف بالمسلم، فكيف بالتقي الصالح؟
وكثير ممن ابتلوا بسفك الدم المعصوم، واسترخاص النفوس المحرمة، إنما أتوا من قبل جهلهم بخطورة قتل النفس ظلما وعدوانا، وإن كانوا يعرفون تحريم ذلك من حيث الجملة، لكنهم لا يدركون شدة خطورته، وشؤمه وسوء عاقبته، في عاجل أمرهم وآجله، ولو سمعوا هذه النصوص وفهموها لارتدع كثير منهم عن الاقدام على هذه الجريمة النكراء، والفعلة الشنعاء، إن كان فيهم بقية من دين أو حياء.
ولهذا كان واجباً على العلماء والدعاة، وأساتذة الجامعات والمدارس الخاصة والعامة، والأئمة والخطباء، والامهات والآباء، أن يبينوا هذه الحقيقة بجلاء، ويغرسوا في نفوس الناس تعظيم حرمة الدماء، ويحذروهم من الظلم والاعتداء، ويوضحوا لهم ما يترتب على إزهاق النفوس، واسترخاص الدماء، من المفاسد والاشرار الخطيرة، التي تلحقهم في دنياهم وأخراهم، وتعم بضررها مجتمعهم وأمتهم. نسأل الله تعالى أن يحفظ بلادنا من كل سوء، وأن يديم علينا نعمة الأمن والإيمان، ويكفينا شر الأشرار، وكيد الفجار، وشر طوارق الليل والنهار.
|