عالم مجنون، مجنون، مجنون، هذا باختصار اسم الفيلم الامريكي الذي اشتهر في الستينيات من القرن الماضي، وكانت أكثر مشاهده إيلاماً تلك الدولارات المتطايرة في الهواء الامريكي الطلق من سطح ناطحة سحاب في هوليود، وقد تكرر هذا المشهد المؤلم قبل ايام عدة عندما بثت وكالات الانباء والفضائيات صورة المستثمر الامريكي شلتون، وهو و اقف على سطح شاهق في فلوريدا يمطر الناس في الشارع بدولارات تناثرت في زمن لا يمكن ان يعالج الفقر صندوق واحد، وانما يحتاج مرضه المزمن إلى بنوك مركزية تعالجه بمشروعات ذات جدوى في عالم الفقراء الواسع، والفارق بين الموقفين أن دولارات هوليود مزيفة يتلقفها الكومبارس في الشارع، ودولارات شتلون أصلية يتلقفها الفقراء، مما اعطاهم عذراً مقبولاً لدى المشاهدين الذين تألموا لعشرات المصابين والجرحى إثر تشابك الايدي، وتصادم الرؤوس في عمليات من يجمع اكثر؟ وكأنهم خالدون مخلدون في هذه الدنيا، وحجته ان هذا المبلغ القليل «عشرة آلاف دولار» يقدم لمشروعاته دعاية وإعلاناً بطريقة مختلفة تغنيه عن الاشتراك في فضائيات العالم الذي اثبت انه ما زال يفكر بما قبل ستين سنة في ظل زيادة نسب البطالة والديون والامراض الفتاكة وتلاشي صورة الفردوس الموعود والاحلام الوردية التي يحلم بها كائن ما على ظهر هذا الكوكب عندما بنى تلك الاحلام على صندوق الدنيا المملوء بكاذبات الأماني.
صدقاً لقد أشبه الفقراء الذين يجرون وراء صندوق اسطوري في تلك الفوضى الاطفال الذين يجرون وراء رجل ضخم، علق على كتفه الايسر صندوق الدنيا، وبيمينه مقعد خشبي، خفيف الوزن صنع بدقة متناهية، ويدفع الاطفال الفضول لمعرفة الصور والقصص على لسان الراوي الذي تولى تزوير حقائق التاريخ وتفاصيله بحجة الإثارة والفنتازيا، وبعد عراك وضياع يشبه ضياع العمر يدخل الطفل رأسه في الغطاء الاسود، ويركز بصره في عدسة من عدساته الثلاث ذات العيون الزجاجية المكبرة بعد ان يدفع دراهمه المعدودة، سيرى في هذا العالم المجنون، مذابح الضمير الانساني والشرف وامانة الكلمة وقلب المعادلات والارث المسروق وتشكيل الشخصيات بصورة مثيرة للضحك، وافتعال المؤامرات وصراع المصالح وطمع الانسان بأخيه الانسان، وبكل اسف يحاول الراوي المزور بيده ان يتحكم بالمشاهد من خلال الفتحة الجانبية، وبصوته المبحوح، ان يطغى على صوت المأساة الانساني الكبرى في حشرجة صوت عنترة العبسي البطل العاشق وسيفه البتار وانطواء عبلة الجميلة الصابرة التي تعلقت به ومنعتها الاعراف القبلية ووجه الزير السالم البطل الهمام، وصرخة كليب المغدور به من الجليلة واخيها جساس الغادر.. كل تلك المأساة المزورة تشهد على ان صندوق الدنيا قد كبر، وتوسع كثيراً ليشمل الكون بأكمله، والمبكي ان تلك الشخصيات الحقيقية التي تعرضت لعمليات تجميل واضافة مازالت تحمل مبادئ الطهر والعفة والبطولة والفروسية والكرم وتسرح في ذاكرتنا الصغيرة كيفما تشاء بشغف ينقل المشاهد من صندوق الدنيا الى الواقع تحت صراخ الاطفال وعبثية الطفولة، بينما الشخصيات في صندوق اليوم الواسع تختلف تماماً وكأنها من كوكب آخر، لا تشعر ولا تحس ببكاء المرضى وصراخ المعوزين ودين الفقراء، وكأن المازني يعني كل فرد منا في كتابة صندوق الدنيا حين قال:« رب أشعث أغبر قد شبر فيافي الزمان لا يحمل سوى آماله وهي لوافح» شاهداً على انه لم يعد هناك ابطال ولا عمالقة نتفرج عليهم ونسمع بهم بعدما تحول المسرح الى حلبة مصارعة تؤمن بالقتل على طريقة الطلقة الواحدة في مبارزة افلام الكاوبوي ورعاة البقر، وتكتب الفقر على الانسان بطريقة التعميم في سيرك يلعب فيه المهرجون وتقفز فيه الاقزام، وهي ترتدي زياً غير مناسب للمشهد وتحرك فيه الدمى العارية في صورة ضاعت فيها الهويات والمبادئ، والادهى ان الجمهور مازال يؤمن في النهاية بأسطورة ميداس التي تجسد في ذلك الرجل الابيض العملاق ان كل ما يلمسه يتحول الى ذهب وجواهر، ولم يدرك الجمهور ان ميداس يشبه جودوج الذي لم يحضر ولن يحضر في مسرحية صموئيل بيكيت «بانتظار جودو».
والحزن الاكبر ان يعلن اديب ما افلاسه ويعرض مكتبته التي احتضنته ثلاثين عاماً للبيع بعدما بناها كتاباً كتاباً ومعرضاً معرضاً بطريقة يستنهض بها اهل المروءة والكرم وليته تفرج على الصندوق الحديث لعرف ان ابا سفانة لم يعد ابا سفانة في هذا العصر المملوء بالاقساط والمثقل بالديون، وان ما ذكرته المصادر القديمة اشبه بالمستحيل عندما تناقلت ان اسيراً في قبيلة من قبائل العرب رأي حاتم الطائي فقال له: يا ابا سفانة قتلنا الاسار والقمل كناية عن المشقة وقذارة الاسر، فما كان من ابي سفانة «حاتم» الا ان افتداه بكل ابله النفيسة في مشهد يثبت ان المقياس السائد الذي يوزن به الناس في عامل الشرف والكبرياء مقياس متورم اجتماعياً، يشعر بالغثيان الذي لا يبرأ منه الزمن عندما يعتمد للشرف الاجتماعي مبدأ ميزان الارصدة المجمدة، ونسي الجميع ان البخل اب لكل العذاريب، وان الكرم يجلب الشرف والسؤدد والمنزلة الرفيعة، حتى قالت العرب نعرف اصالة الرجل الغريب اذا جاورنا بكرمه، ولكن في هذا الزمن الشحيح الذي لا يؤمن بالجوار ولا بالعرب العاربة ولا العرب المستعربة يصعب علي اي منا ان يفهم خطاباً يعج به الواقع الساخن في شهادته على ما يقطر في الذاكرة والوجدان من كتابة بحروف عارية رسخت لدى الاديب وغيره. ان فن الاستجداء واحتراف الاسئلة لا ينفع مادام الاسخريوطيون قد تقمصوا دور المثقف والسياسي والاستاذ، ولا مكان لعبدالملك بن مروان الذي فهم جيداً ما يعنيه جرير في قوله «سأشكر ان رددت على ريشي وانبت القوادم في جناحي» لان كل ما حصدناه من التاريخ الانساني لم يلقحنا ضد هذا الفيروس الذي تعددت خلاياه المتناسلة بشكل يجعل الذين نصبوا شباكهم في ذلك الماء الآسن لن يحصلوا على الخلود ولن يجدوا في صيدهم الا الطحالب الخضراء والقواقع المحتضرة، وبكل تأكيد لا يفهم ايضاً معنى أن يبدأ محمد شكري الذي مات جائعاً في بلاد المغرب قبل ايام روايته الخبز الحافي بقوله:« أبكي خالي والاطفال من حولي يبكي بعضهم معي، لم اعد ابكي فقط عندما يضربني احد او حين افقد شيئاً، ارى الناس ايضاً يبكون المجاعة في الريف، القحط، الحرب.
ذات مساء لم أستطع ان اكف عن البكاء، الجوع يؤلمني، امص وأمص اصابعي، اتقيأ ولا يخرج من فمي غير خيوط من اللعاب، امي تقول لي بين لحظة واخرى اسكت، سنهاجر الى طنجة، هناك خبز كثير، لن تبكي على الخبز عندما تبلغ طنجة، الناس هناك يأكلون حتى يشبعوا».
ما هذه الثقافة التي تبشر بالعزلة المزمنة، وما هذا الجوع الذي يحرض العقل على طرق الابواب الموصدة بعدما تسمم الحبر في الكتابة، وتكسرت الصفائح في دورتها المائية وليست الدموية التي اختلطت فيها الذخيرة الحية بالذخيرة الميتة في ذاكرة المسؤولين عن هذا الانسان، وهذا الكوكب، وانتحرت القيم في ألفيتها عندما عدت الانسان عدواً والنيران صديقة.
انها اقسى الثقافات الإنسانية التي فاض بعضها على بعض عندما يحمل المتفيقهون والمتشدقون تذاكر المرور والدولارات في حقائبهم، ويمثلون الاوطان ثم يبكون الفقر والمعاناة بقصيدة اورواية تلتقي فيها كل المتناقضات في ادب منتصف الطريق الذي اصبح مؤمناً هو ايضاً بأسلوب النائحات اللاتي يبكين غائباً ويندبن ميتاً لا يعرفن حتى اسمه، بينما يحمل المثقفون الوطنيون رواياتهم واشعارهم وسيرهم الذاتية الممعنة بالاحباط والجوع الى المنافي، ولا ادل على ذلك من الجواهري والبياتي ومظفر النواب وغيرهم، ويجدون صعوبة في حضور مؤتمر او امسية او ندوة تتعلق بتخصصهم في تضاريس اشبه بقبر مالك في نظر اخيه متمم بن نويرة الشاهد هو ايضاً على أننا اكثر شعوب الارض حزناً ورثاءً، واعظم دواوين الكون نشيجاً واقسى ادباء التاريخ جوعاً، فالمثقف عند الامم الاخرى يحصل على عيش كريم دون بيع مكتبته من مؤلف واحد، لأنها امم قارئة في المطارات والانفاق، والاستراحات واماكن الانتظار، بينما المثقف العربي يتعرض للاختلاس ابتداء من الناشر والموزع ومروراً بشعوب غير قارئة وانتهاء بانتحار ديوانه وروايته على يد الجرذان وبكتيريا الورق والغبار، ولا يملك الا ان يستجدي المؤسسات الحكومية ان تشتري منه ذلك المؤلف، ومما يزيد من الغصص غياب الكريم الواهب المائة الرتاعا في مدن من ملح وغربان تحجب زرقة السماء نهاراً وخفافيش تفقأ عيون الاطفال ليلاً.
انه الشجى يبعث الشجى حينما يتحدث «الاديب عن مميزات مكتبته المعروضة للبيع مبيناً أنها تحتوي على اكثر من خمسة آلاف عنوان، وفيها من الطبعات النادرة والكتب الممنوعة كذا وكذا، وكأنه يعرض كبرى بناته في سوق النخاسة ليطعم بقية افراد العائلة في ليلة بغدادية لا تختلف عن تلك الليلة التي صلبوا فيها المثقف، وافتعل الجلادون خرافة اسمها طائر الزبزب الذي يهاجم الاطفال ويخطفهم من المهاد، وأمروا الناس ان يخرجوا الى سطوح المنازل ويقرعوا الاواني النحاسية ليدفعوا الطائر عن اطفالهم، وخلوا بضحيتهم في مشهد يؤكد ان الطبول غطت على كل النايات، بل ثقب الآذان والعالم يخطو خطوة إلى الامام ويعود عشر خطوات الى الوراء، وكأنه تلك الحمامة التي تمشي على حرف اجنبي «ثمانية»، وذلك الكلب الذي يسيل لعابه كلما سمع الجرس استعداداً لتناول الطعام وقهر الجوع في نظريات بافلوف وتورندايك التي اعتمدوها في التربية والتعليم.
فالزمن ليس بحاجة إلى تكرار نموذج التوحيدي المخذول الذي احرق كتبه بيده وليس بحاجة إلى ان تجوع الحرة وتأكل بثدييها وليس بحاجة إلى أن ينسى ما كتبه الجاحظ العربي في البخلاء عن اهل مرو وموليير الفرنسي في مسرحية البخل، وشكسبير البريطاني في تاجر البندقية وبوشكن الروسي في دراما الفارس البخيل، وغوغول في الارواح الميتة.
والله من وراء القصد
( * ) الإمارات العربية المتحدة
|