الحديث عن الأخبار الماضية حديث لذيذ، لا أدري لماذا الماضي لذيذ وممتع أما الحاضر فممل وفاتر، وكلما تقدم الإنسان في السن أصبح الحديث عن الماضي أكثر متعة وإثارة تماما كما أنشد لبيد بن ربيعة - رحمه الله:
أليس ورائي إن تراخت منيتي
لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
أحدث أخبار القرون التي مضت
أدب كأني كلما قمت راكع
|
ولذلك قالوا: إن حياة الإنسان نصفان: النصف الأول تمضيه في تمني النصف الثاني: متى أرتاح؟ متى أتقاعد؟ متى يتزوج الأولاد؟ متى أصبح حرا؟ والنصف الثاني تمضيه في التحسر على النصف الأول: كنا أيام زمان نعمل ولانتعب، كنا أيام زمان نأكل كذا وكذا، كنا أيام زمان نفعل كذا وكذا.
هذه الجدلية بين أيام الشباب وأيام الحكمة جدلية تتكرر في كل جيل، يروي لي صديق أنه سافر قبل حوالي ثلاثين سنة مع والديه في رحلة صيفية الى سوريا وتناولوا بوظة عربية «أيس كريم» يصنع بطريقة خاصة في محلات بكداش في وسط دمشق، لقد بقي طعم ذلك «الأيس كريم» في فمي، ولذلك دائما أحدث أولادي: أيام زمان كنا نأكل بوظة عربية رائعة، إنها ألذ وأطيب من «الباسكن روبنز» والهافن داز وغيرهما من تسميات «الأيس كريم» الجديدة، يقول: ثم سافرنا في احدى السنوات الى دمشق وأخذت أولادي إلى مطعم بكداش وأكلنا البوظة العربية، هنا اكتشفت أنني كنت أبالغ في الوصف، لقد بدا لي المكان صغيراً، و«الأيس كريم» ليس بالطعم الخارق نفسه الذي تذوقته قبل ثلاثين سنة، لقد كان درسا عمليا في الاثر النفسي لعشق الماضي الذي جبل عليه الكثير من الناس، كنت أعلق على هذه القصة بأن الكثير من الحكماء (كبار السن) الذين حدثونا عن لحم زمان ولبن زمان وفاكهة زمان لو أتيحت لهم الفرصة لتذوقها مرة أخرى لغيروا وجهة نظرهم، المهم أنني أحببت أن أجمع لكم بعض القصص عن طب زمان جمعتها من أفواه رواة هم زملاء لنا سبقونا في هذه المسيرة.
حدثوني عن الابر عديدة الاستعمال التي كانت تغلى بالماء وتستعمل عدة مرات، وحدثوني عن بسطات أمام المستشفيات تبيع قوارير بلاستيكية تشترى وتقدم للصيدلية للحصول على الدواء لأنه لم يكن هناك تغليف وتعبئة للأدوية بالصورة التي نعهدها، وحدثوني عن عدم وجود تخصصات أساسية، فضلا عن فرعية الجميع يكون في المرور ويفتي كل واحد بما يفتح الله عليه، وحدثوني عن أشياء أخرى كثيرة عن مساعدي الاطباء الذين يعملون كأطباء يصفون العلاج ويعطون التعليمات ولكنني أحببت أن أنتقي لكم من هذا الكم قصتين جميلتين، الأولى: بعنوان «الهاربون من القصاص» والثانية «شهر العدس».
«الهاربون من القصاص»
قبل أكثر من ستين سنة كانت الرياض مدينة صغيرة لايوجد بها إلا طبيبان للعيون، وكانت سيارة الفورت Ford الحمراء سيارة مشهورة بقوتها ومتانتها، اعتدى أحد قطاع الطرق (الحنشل) على سائق سيارة فورت وأطلق عليه الرصاص وألقاه أرضا وانطلق بالسيارة، الرصاصة أصابت رأس الرجل اخترقته من الجهة الجانبية خلف حوض العين، دخلت الرصاصة من جهة وخرجت من جهة أخرى، ولم يمت المريض، ولكن حدث تلف في كلتا العينين وأصبح كفيفا، بعد مدة تم القاء القبض على الجاني وعرضت القضية على القضاء وأصر المجني عليه على تطبيق القصاص، تم ابلاغ الدكتور عبداللطيف باشة بأن يستعد يوم الجمعة المقبل لتنفيذ القصاص، يقول الدكتور عبداللطيف: كنت شابا حدثا، قليل التجربة وترددت كثيرا في تنفيذ الحكم، أنا هنا طبيب لأعالج العيون لا لأقلع العيون، لم أستوعب في ذلك الوقت ان هذا حكم شرعي واجب التنفيذ، وأن العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص، لقد بقيت مهموماً لأيام قبل حلول موعد الجمعة، ولذلك قررت أن أخرج خارج الرياض وأختبئ بعيدا عن أعين الناس، بل إنني طلبت من الدكتور الغوري - رحمه الله - أن يفعل الشيء نفسه، وجاء موعد تنفيذ الحكم وأحضر الجاني الى الصفاة (مكان تنفيذ الحكم)، وقبل التنفيذ تم البحث عن طبيبي العيون فلم يعثر لهما على أثر وحدثت بلبلة وضجة.
ووصل الأمر إلى مسامع أمير الرياض، وكان في ذلك الوقت الأمير محمد بن عبدالعزيز - رحمه الله - فنادى على المجني عليه وزاد له في العطاء، وأقنعه بأن العفو خير، وبالفعل عفا الرجل عن الجاني وسلمت عيناه من القلع ولكن الطبيبين تعرضا للتأنيب والتأديب من قبل إدارة المستشفى بسبب تقاعسهما عن أداء الواجب.
«شهر العدس»
خُطبت احدى الطبيبات إلى رجل يعمل في وظيفة إدارية لا تمت للطب بصلة، كانت العروس تتدرب في قسم العيون والقصة عمرها الآن حوالي عشرين سنة، لم تكن عمليات التخلص من النظارة مأمونة في ذلك الوقت، الليزك والليزر غير موجود والتشريط معروف على نطاق ضيق جدا في بعض الدول الاوروبية والحل المتاح هو استخدام العدسات اللاصقة، حتى تركيب العدسات لم يكن بالسهولة والانتشار الحاليين.
ذهبت الطبيبة إلى زميل لها وقام بوصف العدسات المناسبة، لأنها لا تريد أن تضع أمام عينيها نظارات بإطار معدني ثقيل يشوه شكل وجهها أمام زوجها في أيام الزواج الأولى، سافرت العروس مع زوجها لقضاء شهر العسل الى منطقة جبلية نائية بعيداً عن الازعاج، طبعا كل مساء تنزع العروس عدستيها ليلا وتلبسها صباحا لأنه في ذلك الوقت لم تكن العدسات طويلة الاستعمال معروفة كثيراً، في الصباح وبينما العروس تحاول لبس العدسات قامت بخدش سطح القرنية وأصيبت بألم شديد والمحرج أنها تحتاج إلى طبيب عيون ليشخص الحالة ويطمئنها هل ما تعانيه مجرد خدش بسيط أم أنها قرحة العين، والمكان لايوجد به أي طبيب عيون، زوجها لم يستطع أن يستوعب لماذا لا تستطيع أن تعالج نفسها بالنظر إلى المرآة.. يا له من شهر عدس عجيب!
|