في كثير من الأمسيَّات الشعرية التي أقيمها، والندوات الأدبية التي أشارك فيها يُثار سؤال يتكرَّر من عددٍ من الحضور حول صحة ما ورد عن إنشاد كعب بن زهير - رضي الله عنه - قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيَّمٌ إِثرها لم يُفْدَ مكبولُ
|
أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مسجده، وعن القول الفصل في شعر الغزل، وفي كل مرَّة يكون جوابي مؤكداً - حسب ما ورد في السيرة - أنَّ هذه القصيدة الشهيرة، قد ثبت إنشادها في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل كعب بن زهير حينما جاء تَائباً نادماً على ما بَدَر منه من عداوة للدعوة الإسلامية، وهجاء للمسلمين، كما ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أَلْقى إلى كعب بن زهير بردته مكافأة على هذه القصيدة، وهي أوَّل مكافأة يمنحها - صلى الله عليه وسلم - لشاعرٍ بهذه الطريقة، وأشير إلى أن المؤرخين وكتَّاب السيرة يعتمدون على شيوع هذه القصة شيوعاً يجعلها ثابتةً لديهم، جديرةً بالقبول رغم عدم وجود سندٍ متَّصل بروايتها، وهذا ما يؤكده ابن تيمية - رحمه الله - من أنَّ الشيء إذا كان مشهوراً عند أهل الفَنِّ - أي العلم - قد تعدَّد طَرْقُه، أو تعدَّدتْ طُرُقه، فهذا مما يرجع إليه أهل العلم بخلاف غيره، وأنَّ المرسل إذا روي من جهات مختلفة - ولا سيما ممن له عناية بالمغازي - كان في منزلة الحديث المسند، وأنَّ بعض ما يشتهر عند أهل المغازي والسير ويستفيض أقوى مما يروى بالإسناد الواحد.
ولا يكاد يخلو لقاءٌ من تلك اللقاءات التي يجري فيها هذا الكلام من اعتراضٍ شديد يطرحه بعض المتحمّسين من الحضور، حيث يرون أن القصيدة مادامت لم تتصل بسندٍ فإنَّ الاستشهاد بها على إباحة «المدح المتزن» و«الغزل العفيف» لا يصح، ويبالغون في ذلك مبالغة تخرج عن نطاق الرأي الصحيح، ولا سند لها من دليل شرعي واضح، ولا يقتنعون بما يقال عن قبول العلماء الأخبار التي تشيع عندهم شيوعاً يؤكِّدها.
وأذكر أن أحدهم قال لي ذات يوم: كيف تؤكد إلقاء هذه القصيدة أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها قول كعب:
تجلو عوارضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابتسمتْ
كأنَّها مُنْهَلٌ بالرَّاح مَعْلولُ
|
فقلت له: إنَّ هذا الذي تقول لا يثبت أمام الدليل، وليس في وصف كعب لثغر من سماها سعاد في قصيدته ما ينبو عن الذوق، وهو دليل على قبول ما لا فحش فيه من الصور الشعرية التي تجنح إلى المبالغة في التصوير - أحياناً -.
وحينما كنت أتجاذب مع أستاذي د. عبدالقدوس أبوصالح أطراف الحديث في هذه المسألة قال لي: إنَّ في مكتبي كتاباً صغير الحجم عظيم الفائدة عن قصيدة «بانت سعاد» بعنوان «سند بانت سعاد والبحث العلمي» لفضيلة الشيخ إسماعيل الأنصاري، يؤكد فيه مؤلِّفه بمتابعة الروايات واستقصائها على طريقة علماء الحديث أنَّ القصة بكاملها بما فيها القصيدة وردت بسندٍ متَّصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ ما ذكره بعض من نقلها من المؤرخين وكتاب السيرة من عدم اتصال سندها لم يكن دقيقاً، ووعدني د.عبدالقدوس بأن يبعث إليَّ بصورة من الكتاب، وقد وفى بوعده - جزاه الله خيراً -، ووجدت في الكتاب بغية الباحث الحريص على المعلومة الموثَّقة، حيث أشار مؤلِّفه إسماعيل الأنصاري إلى ثبوت سند رواية قصة كعب بن زهير وإلقائه القصيدة بين يدي رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، وإلقاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببردته إليه مكافأة على قصيدته العصماء.
يقول الشيخ اسماعيل «لقصيدة «بانت سعاد» سند متصل كان من بين أسانيدها التي جمعها الحافظ إبراهيم بن المنذر الحزامي أحد مشايخ البخاري وابن ماجه، وبعض مشايخ الترمذي والنسائي»، ثم أورد القصة وسندها المتصل كاملةً.
وذكر الشيخ اسماعيل في كتابه أن الإمام علي بن المديني قال: لم أسمع قط في خبر كعب بن زهير حديثاً أتم ولا أحسن من هذا، ولا أبالي ألا أسمع من خبره غير هذا، مشيراً إلى ما رواه الحافظ إبراهيم بن المنذر.
والكتاب يستقصي كلَّ ما ورد من الروايات عن هذه القصة والقصيدة، وكلَّ ما ذُكر فيها من آراء الفقهاء والعلماء الذين تلقَّوها بالقبول، واستخرجوا منها فوائد كثيرة تتعلَّق بأحكامٍ شرعية حول إنشاد الشعر في المساجد، وإباحة المدح المتزن، والغزل الذي لا فُحْش فيه، وحول جواز المكافأة على الشعر، والتجاوز عما قد يجنح إليه الشاعر من المبالغة المقبولة والتفصيل المعقول الذي لا يجاوز الحقيقة، فما أحسن طرق العلم الصحيح وما أجملها!
إشارة:
يقول كعب:
إنَّ الرسول لنور يستضاء به
مهنَّد من سيوف الله مسلولُ
|
|