خصصت الحكومة التنزانية لكل واحد من الوفد السعودي.. سيارة بسائق يتكلم العربية.. ومرافقاً على مستوى وكيل وزارة.. أقل من السائق معرفة بالعربية.. وكنت أعلم قبل الزيارة لتنزانيا أن بها قبيلة تأكل لحوم البشر..!
وبالمصادفة العجيبة أن كان مرافقي.. وهو (محافظ) سابق لاحدي المحافظات.. ينتمي إلى قبيلة (الماساي) البدائية المشهورة بهذا الطبع المخيف.
كان هذا المرافق وهو في العقد الخامس من عمره أنيقا في تعامله معي، كما هو أنيق في لباسه، وتصرفاته.. فأراد هو والسائق أن يؤنسا ضيفهما بأحاديث طريفة.. أثناء التوجه إلى (دار السلام) العاصمة..
بدأت بالتعريف بأسماء الأماكن والمحافظات والمؤسسات العلمية والثقافية..
ثم سألني وقد صادفنا في الطريق رجالاً ونساء بائسين وشبه عراة أتعرف من أي قبيلة هؤلاء..؟!
قلت: لا.. قال هؤلاء من قبيلة (الماساي) التي تأكل لحوم البشر..!
فتصنعت الجهل بما كنت قد سمعته قبلا عن هذه القبيلة.. قلت أعوذ بالله.. تأكل البشر..؟! قال (نعم.. وأنا منهم). ولكن اطمئن لا تخف فقد كان هذا في الزمن الغابر.. عندما كان المستعمرون الأوروبيون يستعمرون بلادنا.. وكان جزءاً من حربنا ضدهم وللانتقام منهم.. ولكن القبيلة لا تأكل كل آدمي.. إنما هي تأكل لحوم أصحاب البشرة البيضاء فقط..!
* عندما دخلنا (فندق كلمنجارو) وهو أكبر وأفخم فنادق دار السلام.. واستراح كل منا في غرفته دقائق معدودة.. خرجت أتمشى في ردهات الفندق وأطلُّ على بعض المناظر الطبيعية الخضراء واذا بالشيخ العبودي يفاجئني بإمساك كتفي ويُصْلِتُ (وريقة) صغيرة في جيبي. ويعود إلى غرفته مسرعا.. أخرجت الوريقة من جيبي وإذا بها أربعة أبيات دعابية.. كأنه يريد أن يستفزني لأقول شعراً في جمال الطبيعة الساحرة في هذه البلاد الأفريقية.
هذه احدى المداعبات الظريفة التي يؤنس (أبوناصر) زملاءه ومحبيه. بعد الغداء بالفندق أخذونا في جولة على مدينة (دار السلام).. والحق أنها مدينة جميلة في بعض مبانيها وحدائقها وبعض معالمها.. وتشعرك بأن لها من اسمها نصيباً.. حيث لا تشعر فيها برهبة الغربة ليس لأننا محاطون بموكب رسمي.. للمحافظة علينا كضيوف على الدولة.. ولكنه الشعور الداخلي بأننا بين إخوان لنا في الدين.. وأصدقاء لم تعرف عنهم النزعة العدوانية لمن يختلف معهم في الدين.
***
كانت المائدة خوانا على الأرض. وكان أهم ما يلفت النظر أنواع (الموز) التي قال عنها نائب الرئيس (عبيد جومي) ان الموز عندنا يقارب ال(20) نوعا.. فمنه ما يطبخ ومنه ما يشوى.. ومنه ما يؤكل على طبيعته.. ومنه... الخ. نائب الرئيس هذا مسلم.. أما الرئيس في ذلك الوقت فهو (جوليوس نيريري) نصراني.
برنامج الزيارة كان حافلا بزيارات جميع محافظات تنزانيا ال(16) إلا أنه اختصر وفقا لرغبة الوفد.
خصصوا لنا طائرة تتسع لعشرة أشخاص فقط تنقلنا من محافظة الى أخرى، فنحن أربعة. والمرافقون لنا في هذه الرحلات هم أعضاء في المجلس الإسلامي الأعلى في الدولة.
يوم السبت 20/3/1399هـ اتجهنا إلي (تنجا) وزرنا بعض المدارس والمراكز الإسلامية والمساجد. وبتنا فيها.
وفي صباح الاحد رحلنا إلى (كلمنجارو) ومدينة موشي التي تحف بهذا الجبل العملاق الذي تشترك في امتداده أربع دول.
وقد تصورت هذا الجبل كأنه شيخ بعمامته البيضاء يعظ سكان تلك الدول المرتبطة به جغرافيا، وسبحان الخلاق العظيم، فليس من طبيعة افريقيا أن تكون فيها ثلوج. وهي جنوب خط الاستواء.. لولا شهوقه إلى كبد السماء. وتجاوزه طقس أفريقيا.
ولعل من أهم المعالم التي زرناها بحيرة (فكتوريا) التي تتغذى عليها دول افريقية عديدة.. آخرها السودان ومصر. كما زرنا محافظة (كيجوما) في أقصى جنوب تنزانيا وهي تقع بجوار بحيرة (تنجنيقا) التي يبلغ طولها من الشمال الى الجنوب (350) كيلا ومن الشرق إلى المغرب (300) كيل وتقع عليها عدة دول منها رُوَّاندا وبورندي والكنغو. بفندقها المتواضع بتنا تلك الليلة المطيرة، على جمال تلك البحيرة وبشواطئها الخلابة خضرة وخصبا عجيبا.
هناك تحركت شاعريتي وبدأت اكتب قصيدتي (بحيرة تنجنيقا).. خرج الشيخ العبودي من غرفته المجاورة تحت صب المطر وطرق علي باب غرفتي ففتحت له فاذا هو يقول: الآن الآن جاء دور الشعر قلت صدقت.. وها أنا أكتب القصيدة.. وفي الصباح وعلى مائدة الافطار التي حضرها المحافظ وعدد من المسئولين ألقيتها عليهم.
ولأن هذه البحيرة بخلاف شقيقتها (فكتوريا) منغلقة على نفسها فلا يخرج منها ماء إلا إلى السماء.. وليس لها مخارج أبداً.. خاطبتها بقصيدة طويلة منها:
لماذا عليك السحاب انحنى
ومنك أرتوى بدل الممطر؟
بربك يا (تنجنيقا) أنثري
أحاديث عن كونك المُبْهِر
لماذا بخلت فلم تفتحي
طريقا إلى ظامئ مصحر..؟
عقمت فلم تلدي مرة
ولو (جَدْوَلاً) ضيق المعبر
وكنت مثال الغني البخيل
جَدَاه على بيته الأصفر (1)
|
(1) (في زورقي) للشاعر ص 253.
|