الحوادث الأليمة المتلاحقة في الساحات العربية والإسلامية والعالمية طوت صفحات، ونشرت أخرى، جاعلة التاريخ السياسي الحديث ذا مرحلتين: مرحلة ما قبل تهديم «البرجين» وضرب «البنتاجون»، ومرحلة ما بعدهما. على غرار التاريخ السياسي العربي قبل «النكسة» وبعدها، وقبل احتلال «الكويت» وبعده، وقبل «سقوط بغداد» وبعده. إذ كل يوم تطلع فيه الشمس يكون للأمة العربية بداية تاريخ أليم. وبعد كل لعبة موجعة تنقلب الخطابات، وتختل الموازين، ويصاب أصحاب المواقف المبدئية بإحباطات مؤلمة.
فعندما رفعت أقلام المؤرخين، وجفت صحف التاريخ الحديث بجزئه الأول، طويت معه «أجندة» السياسة المهيمنة، ونزلت إلى المشهد «أجندة» جديدة. والبسطاء من الناس من لا يمتلكون إلا آلية واحدة للقراءة، ولا ينظرون إلا إلى زاوية واحدة من زوايا الحدث، تحكمهم الثبوتية والنمطية، وتتحكم فيهم واحدية الرؤية. وقراء الأحداث المعمَّاة كقراء الكف، يفترضون مصائر قد لا تكون، وهم مع هذه الأدواء القرائية لا يتخلصون من امكاناتهم المعرفية وأنساقهم الثقافية وسياقاتهم الآنية: فالسلفي والعقلاني والقومي والعلماني و«الراديكالي» والذرائعي، والمادي والطائفي، ومن رجله في الماء البارد، ومن رجله في النار الملتهبة، لكل واحد منهم آليته ومستخلصات قراءته ورؤيته المستقبلية. وقل أن تجد قارئاً بريئاً لا تحكمه أنساقه، وقلَّ أن تجد توافقاً في القراءة، وقلَّ أن تجد قارئاً متنوع القراءات، ينتاب الحدث من عدة زوايا، ويكتنفه بكل هذه الأنساق، وبكل مستويات القراءة وآلياتها، ويخرج بنتائج معقولة وموضوعية.
ولما كانت الأزمنة والأحداث والأناسي ليسوا سواء وجب أن يكون لكل مرحلة «خطابها» و«مستواها القرائي»، ولكل قارئ رؤيته وتصوره. إذ كل نخبوي أسائله عن حدث بعينه تكون له رؤية مخالفة أو مناقضة لمن سبقه أو زامنه أو لحق به، حتى لقد كدت أذهل مما أسمع. و«أمريكا» بوصفها الأكثر حضوراً وتقحماً على خلوات القراء، تشكل المقروء الأصعب، كما أنها القارئة الأخطر، لأنها الأقوى، والأشد اندفاعاً، والأكثر تدخلاً في خصوصيات الآخرين، وبخاصة بعدما تجرعت مرارات الذل في لحظات التعملق والفرادة. ومن حق كل ممسوس بالضر من هذه القسوة المتغطرسة، أو خائف منها أن يختط لنفسه منهجاً قرائياً ونهجاً تعاملياً مواكباً لهذه الحالة الاستثنائية المتوترة. وعلينا نحن نواجه تحديات متعددة أن نقرأها قراءة واعية. ف«أمريكا» المدنية، وأمريكا العلم، وأمريكا الاقتصاد، وأمريكا الشعب، غير أمريكا «البيت الأبيض» و«البنتاجون» و«المخابرات» و«الإعلام» و«جماعات الضغط الصهيوني».
وقراءة الثالوث: السياسي والإعلامي والمخابراتي تختلف عن قراءة الوجه الآخر، وجه المدنية والحضارة والعلم و«التكنولوجيا» التي نلتقي مع الكثير منها، ونختلف مع الأكثر، ولكنه اختلاف يمكن تلافي سلبياته. وقراءة «أمريكا» المحمومة المتوترة غير قراءتها في وضعها السوي. وحين نرتب موقفنا منها على ضوء قراءة مبتورة أو لحظية نخسر الرهان السليم، وقد نتجرع مرارة ضربة استباقية، أو محاصرة إرهاقية، أو نضطر إلى تراجع مذل واستسلام مهين، مثلما فعلت بعض الزعامات المتعثرة على خواء وجبن.
أمريكا دولة قوية في كل شيء، ضالعة في كل شيء، ولديها أكثر من ورقة تلعب بها ضد من يعكر صفوها أو يتعرض لمصالحها، والناس: اللاعنون لها والمربتون على أكتافها يودون احتواءها وتصفية الخلافات معها. وكم من لاعن لها على رؤوس الأشهاد يسبح بحمدها ويقدس لها من وراء الكواليس. ومع كل ما هي عليه، وما بدر منها فإن من مصلحة الشعوب النامية أن تقترب منها، وأن تتحامى منازعتها، لأنها دولة لا تنظر إلا من خلال كوة المصالح، وسياستها «ميكافيلية»، كما أنه ليس من مصلحة الصغار أن يضعوا أيديهم في يدها لمواجهة خصومها، فهي حين تكون معك، تغطي كل عيوبك، وحين تقضي منك وطرها تحمِّلك عيوب غيرك، والأجدى ألا نناصبها العداء، وألا نعادي من أجلها، وتلك معادلة صعبة، ولكنها ممكنة.
وإذا كانت أمريكا في راهنها المضطرب لا تملك خطة واضحة ولا طريقاً قاصداً في مواجهة الأحداث، ولما تزل في ارتباك منذ أن تفكك الاتحاد السوفيتي، ومنذ أن ضُربت في الصميم، فكيف يتأتى لمن سواها الاتزان، وأنى للدول المسكونة بالقلاقل ترتيب طرائق المواجهة أو الموافقة. لقد كان أمامها بعد الضربات المذلة مسؤوليات:
الأول: رد الاعتبار، وإثبات أنها لم تتأثر بعد غزوها في عقر دارها، وأنها قادرة على الوصول إلى خصومها في مخابئهم، وقد فعلت ذلك، فغزت «أفغانستان» و«العراق» ولوحت ل«سوريا» و«إيران» وطوعت «ليبيا» و«السودان» ولكنها لم تحسم الموقف لصالحها.
الثاني: إعادة التركيبة العالمية:
- ثقافيا.
- واقتصاديا.
- وسكانيا.
- وأيديولوجيا.
وقد باشرت ذلك الفعل الخطير، وبدأت تتدخل في المناهج والثقافات وأنظمة الحكم، ممتطية صهوة «العولمة»، وهي إذ نقضت غزل بعض الأنظمة وجعلته أنكاثاً لم تحقق ما وعدت به من أمن وحرية و«ديموقراطية» لتحفظ أصدقائها وتمنع أعدائها.
الثالث: إعادة ترتيب الأولويات فيما يتعلق:
- بالأصدقاء.
- وبالمصالح.
- وبالقواعد العسكرية.
وقد فعلت الكثير في هذا السبيل مختصرة ذلك كله بمقولة: «إن لم تكن معي فأنت ضدي» بحيث قست في لومها، وجارت في مطالبها، وتعسفت في إجراءاتها.
الرابع: إحكام قبضتها على العالم، وتحقيق مفهوم القطب الواحد. وها هي توالي حملاتها على دول المنطقة الملتهبة فارضة أقسى الحلول. وأمام هذه الأولويات المؤذية لا بد من تحرف رشيد لصيغة الخطاب وآلية القراءة ليحدا من الفوضى، ويقربا بين وجهات النظر، مع التحسب لقراءتها الخاطئة، وكل مقدمة خاطئة تؤدي إلى نتيجة خاطئة.
ومما يضاعف تعقيد الإشكالية أن حساباتها لمواجهة مسؤولياتها لم تحقق نسبة النجاح المطلوب، وإذا حققتها فبأثمان باهظة، تطال الأنفس والأموال والعتاد والعدد: أمريكياً وعربياً وعالمياً. والإخفاقات تطال الممارسات والتحركات «المكوكية». فزيارة «بوش» لحليفه وشريكه في الاحتلال تجلت فيها متغيرات في الشارع الأوروبي عامة وفي اضطرابات الخطاب البريطاني على وجه الخصوص، وفي النتائج. ولعلنا نذكر الاستفتاء الأوروبي الذي قلب الطاولة على الصهيونية، وزيارة «شارون» ل«إيطاليا» التي أعادته دون المؤمل. والارتباك الواضح يتجلى للمتابعين لخطابات «بوش» و«بلير» وكل ذلك يحال إلى خطأ القراءة.
لقد كانت مهمتهما الأولى مواجهة الإرهاب واجتثاثه، وقبل الناس ذلك، وبدأت أمريكا المواجهة في «أفغانستان»، ولما تزل الأوضاع سجالاً، فلا «قرضاي» انتصر، ولا «الملا عمر» قتل أو أسر أو انتحر.
و«أمريكا» وحدها التي تدفع الثمن الباهظ من رجالها وعتادها وسمعتها. ودافع الضرائب الأمريكي يصيخ إلى النتائج، ويتحكم بكل شيء، بحيث يحسب له الحزب الحاكم كل الحساب، فهو الذي يدخل زعيمه البيت الأبيض عزيزاً أو يخرجه منه ذليلاً، وذلك هو المأزق لكل رئيس، وبخاصة حين لا يكون هناك بوادر انفراج يلمع بها الرئيس وجهه، ولو في فترة الانتخابات الحرجة. ولم يكن المواطن الأمريكي وحده الراصد والمتابع، بل وقف الناس كلهم أجمعون: الموالون والمناوئون والحياديون، ينظرون جميعاً إلى الفعل وإلى النتائج. فكان أن جاء الفعل مرتجلاً والنتائج عكسية، فما وسع الموالين إلا التبرير، وما وجد المناوئون إلا الشماتة، أما الحياديون فانشقوا على أنفسهم، وتقاسمتهم فئتا: المعية والمناوءة. وكل الفئات لم تتمكن من الوقوف على حقائق دامغة، فالمسألة رهانات على طائر في السماء أو على سمك في الماء، ولو قرنت الأحداث والمحدثين وفق متطلبات المرحلة، لكان أن خفت وطأة الفتن، وأمكن تلافي الشتات والشقاق.
ويظل الراصد والمتابع والمستشرف في حيرة من أمرهم، فالرهانات المتداولة في الشارع العربي ليست متقاربة. فرهان حول تفكك أمريكا على شاكلة الاتحاد السوفييتي، ورهان على سقوط الحكومات العربية والإسلامية وقيام أنظمة «ديمقراطية»، ورهان على الاستسلام غير المشروط لمن بقي من الدول الهشة والتوقيع على بياض، ورهانات أخرى ليست من المعقولية على شيء، وفي النهاية تجري الرياح أو تسكن رغم أنف الربَّان. وأمريكا التي تورطت في أكثر من عملية، وخرجت منها بخسارة فادحة وخطيئة غير مغتفرة تعيد «السيناريوهات» نفسها في مواقع جديدة مكرهة لا بطلة.
ولم يضطرب الخطاب الأمريكي بوصفه ناتج قراءة خاطئة اضطرابه في الشأن «العراقي»، لقد جيء بسلاح الدمار الشامل كمبرر للحرب، وضرب العراق الضربة الموجعة له، وللعالم العربي من حوله، وللمؤسسات العالمية، وللشرعية الدولية. وجاءت الغلطة القاصمة لظهر أمريكا بإعلان الاحتلال، وبحل وزارة الدفاع والداخلية، ونهوض الجيش المحتل بحماية الأنفس والمدن والثغور، وفات «أمريكا» أن مجرد الفراغ الدستوري كاف لشغلها. ذلك أنه يؤدي إلى فتن عمياء، نشاهد أطرافاً منها، والمستقبل ينطوي على ما هو أسوأ.
وتتكشف أوهام القراءة وتخبط الخطابات، وتتعرى اللعب عند عدم العثور على سلاح الدمار الشامل، وتظهر خطيئة الكذب على الشعب، وممارسة الكذب من أخطر المقترفات في الدول «الديمقراطية»، ومع ذلك انتظر الناس كثيراً، ولما تهتد أمريكا ولا بريطانيا إلى شيء من مسوغات الحرب، حتى بعض القبض على «صدام». وبدأت نغمة محاكمة القادة لكذبهم على شعوبهم، فكان أن تحول الخطاب إلى جعل مهمة الغزو الأمريكي إحلال «الديمقراطية» وتحرير الشعوب المضطهدة. نقول هذا لنؤكد أن خطأ القراءة ليس وقفاً على طائفة دون أخرى، فقراءة أمريكا للأوضاع العربية قادتها إلى أنفاق مظلمة ومستنقعات موحلة. إن قراءة الرجل العادي ورجل الدولة لمجمل الأحداث والوقوعات يجعلهما يعيشان في حالة من الذهول والارتباك، وقراءة الراهن مغامرة محفوفة بالمخاطر، فهل نغامر بالقراءة أم نطوي الصحف إلى حين، وندع الأحداث تنبئ عن نفسها؟ إنها معضلة، فالإقدام والإحجام لكل منهما آثاره ومحاذيره.
ولما تزل تحولات الخطاب الأمريكي واضطرابات القراءة قائمة، وفي كل تحول تفقد أمريكا أشياء كثيرة، تفقد الأصدقاء، والمصداقية، والموالين، والمعجبين، والمحبين، ويتنفس أعداؤها المنبوذون والمطاردون والمحاصرون والمتربصون، فيستفحل الإرهاب، وتنشط المقاومة، وتتعرض مصالحها للتفجير مما يحرج أصدقاءها، ولما تزل في غباء أو تغابي، بحيث لا تريد القراءة البريئة ولا الخطاب الثبوتي، فهي إذ تسهم في صنع الإرهاب أو في تكوين حواضنه من خلال ممارساتها، تصر على إحالته إلى منهج أو دين أو أمة، ويظل معها الخليون يقولون ما تقول، وتظل في الساحات الملتهبة كما نرى، تمنى بنكسات موجعة، وتظل في الساحات العالمية كما نشاهد، تواجه تحديات ومظاهرات وتساؤلات، وقد لا تريد قراءة الأحداث كما هي، بل كما تريد، وهي إذ تظل مع إحالة الإرهاب لدول وحضارات ومناهج وحركات يظل المتسرعون معها في المنشط والمكره ينوبون عنها في ترويج الافتراء.
وأمام هذا الاضطراب، وهذا الاهتياج العملي والقولي يجب على النخب الإعلامية والعلمية والثقافية وقادة الفكر أن تدق نظرتهم في قراءة الأحداث، وأن يعوا مسؤوليتهم، وأن يتخذوا أحكم الطرق وأسلمها لتجاوز هذه المرحلة المضطربة. فالذين يتخذون في قراءتهم موقفاً «استراتيجياً» ولا يضعون في اعتبارهم «التكتيك» المرحلي، قد ينالهم ما لا تحمد عقباه. فالمرحلة تستدعي التصرف الحكيم، وفي القرآن {إلاَّ أّن تّتَّقٍوا مٌنًهٍمً تٍقّاةْ} مع مراعاة الاستدراك {وّيٍحّذٌَرٍكٍمٍ اللّهٍ نّفًسّهٍ}، بمعنى يجب أن تنتبهوا، ولا تجعلوا التقية المؤقتة ارتماء في الأحضان وامتثالاً للأوامر وموالاة مطلقة. فقد يقول الإنسان كلمة الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، وقد يقولها وهو شاك مضطرب، وقد يقولها وهو مؤمن بها. فاللفظة هي اللفظة، ولكن النِّية تحيل إلى الاضطرار المعذور أو إلى الإلحاد المحبط. والذين يقولون ما تقوله أمريكا في شأن الإرهاب والتصحيح والتعديل يواطئون على الخطايا. وعلى قادة العالم العربي والإسلامي أن يقدروا هذه المرحلة، وألا ينجرفوا في تيارها، لأنها مرحلة عارضة، وليس من مصلحة أي دولة أن ترتب أوراقها النهائية على معطياتها. فالصبر والمصابرة والمرابطة هي سلاح الناصح الأمين، ذلك أن أخطر ما تواجهه الأمة إطلاقات الغرب وتصديق المتسرعين لها، وإدارة خطاباتهم على ضوئها.
إن التعامل مع أمريكا يحتاج إلى أكثر من مستوى قرائي، وإلى خطاب حضاري قادر على الجمع بين المداراة والاتقاء وتجاوز المنعطف الخطير بأقل الخسائر، والصهيونية التي زجت ب«أمريكا»، عرفت الطريق إلى استدراجها، وهو ما يفقده العالم الإسلامي والعربي: المال والإعلام والقراءة الواعية لكل حدث وموقف، وتجاوز المؤسسات إلى الشعب الأمريكي، هي مفاتيح الأمة الأمريكية.
|