لعل الحكمة في تنوع أجناس الدنيا وتقسيمهم إلى شعوب وقبائل هي أن يتعارفوا، ويمكن الاتفاق - بين الناس - على أن الكلام واللغة هما الوسيلتان الأكثر فاعلية في عملية التعارف تلك، بل يزيد الأمر أهمية أنه بقدر ما تسمو لغة الخطاب بين المتحاورين تتحقق - تبعاً لذلك - مصالح عديدة أدناها الوئام والألفة والاحترام المتبادل، وأعلاها مكاسب مادية ومعنوية لا تعد ولا تحصى تظلل البشرية بالترقّي في سلم الحضارة الإنسانية بالقدر الذي لا يكون له حدود أو نهاية معلومة. ولا يرتبط ذلك باللغة المستخدمة أو بموضوع الحوار وحسب، بل يمتد ليشمل ثقافة أهلها ومكانتها التي يراهم الآخرون فيها بين شعوب الدنيا، ولعل هذا الأمر الأخير هو الدافع الحقيقي الذي يدفع بأقطاب علوم اللغات في كل أمة أن يتألموا كلما كُسرت قاعدة لغوية أو هُجر استخدام أصيل لمركّب لغوي. والأصل بين شعوب الدنيا أن يتنافسوا في تقديم لغتهم للآخر، بل ويبذلوا نفيس وقتهم ومالهم ومهاراتهم في سبيل ذلك، اعتقادا من الإنسان بأن الآخرين إنما يرونه من عدة وجوه أهمها لغته في ذاتها، وقدرته على توصيلها كلغة سائدة وفاعلة في الفكر العالمي. وباختصار شديد يمكن القول: إنه بقدر ما يحترم الناس لغتهم يحترمهم الآخرون. فاللغة وعاء كل مركبات الثقافة الإنسانية، والحاضن لكل المخرجات المجتمعية علماً، وفكراً، وممارسة. وبالمقياس نفسه، بقدر ما تهون اللغة على أهلها يهونون على الآخرين. ومرد ذلك إلى علل ثقافية اجتماعية كثيرة، أبرزها غياب ثراء التواصل الإنساني ومحركه الفاعل مما تغيب معه قيمة التعارف بين الناس، الحكمة الظاهرة من اختلاف البشر وتقسيمهم إلى شعوب وقبائل.
ومن المفارقات الغريبة في مجتمعنا السعودي أننا نحن الذين صدّرنا ثقافة التعارف والتآلف بين الناس في رسالة من أروع رسائل الدنيا وأكملها عبر النص القرآني الكريم، وعبر التقاليد المجتمعية المترسخة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، ولكن مع ذلك، قد تهون علينا لغتنا هواناً يشيب له الولدان، لما في هوانها علينا من نكران لرصيد ضخم، ولما نتجاهله مما تتميز به من أهلية للسيادة، ومن ثراء لفظي وتراكيبي عميق لا يليق معه أن يحل محلها لغة في السيادة أو في الانتشار. والعرب مع ذلك كله أمة تعارف قادرون على التفاعل مع كل الناس ومع كل شعوب العالم وفق منظومة احترام متبادل لكل اللغات والثقافات. وقد زاد من أهمية الولاء للغة العربية وضرورة دعمها، ما أفاء الله به على مجتمعنا من كونه مقصد المسلمين وقبلتهم، وما أنعم الله عليه به من خيرات الدنيا مما جعله مقصد العرب والعجم للعمل والكسب الحلال. لكننا على الرغم من كل ذلك، أنتجنا جيلا هجينا بين العربية والعجمة. جيلا من أهلنا، وأجيالا وفدت إلينا لم نعلّمها العربية رغم أننا نتحدث معها، بل علمناها مركبات وكلمات تنقضي بها الحاجة الوقتية، وتسدد المهمات الآنية، في جهل أو تجاهل مجتمعي غريب لرسالة عالمية مقدسة، ليس لقداستها الدينية وحسب ، ولكن أيضا لقداستها في الفكر العالمي التعارفي الذي أنتجناه لكننا لم نرعه.
ربما أُتِينَا من هذا المنتج المجتمعي غير المحمود، الذي هانت علينا فيه لغتنا فهُنَّا فيه على الناس، ولم نحترم فيه ذلك الثراء الفكري والعلمي فلم تحترمنا كيانات مجتمعية داخلية وخارجية نذرت نفسها للبحث عن مواطن الهوان فوجدت أجيالا تسابقت على صياغة مركبات منطوقة غير مسبوقة على نحو:
(إنت في روه.. أنا في خلي هنا) عوضا عن سمو ورفعة صياغة على نحو: (يمكنك الذهاب.. سأبقى هنا).
(*) عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام
|