يعد الفشل في الانتقال من طبيعة المجتمع التقليدي ذي البعد العشائري إلى المجتمع المدني إحدى معضلات التنمية التي تواجه كثيراً من المجتمعات العربية.
فموروثنا من وسائل إنتاج وأنماط معيشة وقناعات وسلوكيات تنتمي إلى طبيعة رعوية أو شبه ريفية تعتمد على الاقتصاد الريعي، إضافة لخصائص بداوة مرتبطة عضوياً بالترحال كنمط معيشة وسلوك اجتماعي، طابعها الاقتصادي كان ريعياً مكتفياً ذاتياً ينعدم فيه التخصص والمنافسة الإنتاجية، والأفراد يتشابهون في المعرفة والخبرات، ودوافع العمل فيه ليست اقتصادية إنتاجية قدر ما هي شعور بالمسؤولية الجماعية وفزعات وتقاليد مرتكزة على اعتبارات قرابية أو أخلاقية مع الافتقار للتنظيم والاحتراف والحرية الفردية واحتقار للمهن والفنون.من أهم الخصائص السلوكية التي ينتجها الارتحال هو البساطة والارتجال في اتخاذ القرارات المصيرية ناهيك عن القرارات اليومية، لا وقت للمراجعة المستفيضة ولا لبناء ثقافة فكرية أو تقارير مكتوبة أو أبحاث مدروسة لا مكان لإجراءات إدارية، لا منفعة لعقد تجاري، وفي المجتمع الريفي كان الإنتاج يتأثر كثيراً بعوامل بيئية (من مطر وآفات وخصوبة تربة) غير مسيطر عليها، وكان على المزارع في حالات كثيرة انتظار نهاية الموسم ليرى ما يحدث لمحصوله مع قليل من القدرة على التغيير مما يؤثِّر على موقفه من الحياة ومن ثَمَّ ضعف أهمية إرادة الفرد في التأثير على الواقع، وعدم ضرورة التنظيم والاحتراف والابتكار الفردي.
فإذا أخذنا قيمة الوقت، نجد أن الزمن لدى الراعي المرتحل مثلاً، يسير برتابة مع ما يرتبط به الإنتاج من نمطية عشوائية للمطر والمرعى الخصب الذي لا يمكن التأثير عليهما، بينما الوقت لدى الفرد في المجتمع الصناعي هو قيمة إنتاجية تراكمية فبالعمل يزداد الإنتاج. كذلك الابتكار في وسائل الإنتاج له تأثير كبير في زيادة الإنتاج وجودته بالمجتمع الصناعي، بينما في المجتمع الرعوي ظلت الوسائل كما هي تقريباً لآلاف من السنين؛ لأنه غير مسيطر عليها إلا في أضيق الحدود، وهنا يصبح الواقع قليل التأثير وبالتالي يغدو التفكير الواقعي العقلاني قليل الأهمية مقابل التفكير الميتافيزيقي أو الخيالي أو الأدبي، وعلى هذا النحو تسير أساسيات الحياة، فالطبخ لإنضاج الأكل وليس للتفنن وطيب التذوق، والمسكن (الخيمة) للإيواء ولا مكان للزخرفة والتمتع بالمبيت، وينجرُّ معها الملبس والدواء والبيع والشراء والزواج والقضاء والفن والأدب والغناء.. كلها ينبغي أن تتلاءم مع الترحال: خفيف حملها، سهل نقلها، طويل بقاؤها، كالنشيد والحكاية: شفهية قوية الإيقاع، غير عميقة أو فلسفية.
وفي القيم التي أنتجها الارتحال، نجد أن الارتحال لم يزل مهيمناً أو مؤثراً في كثير من مجتمعاتنا العربية: الموظف الذي قَدِم إلى عمله الجديد وأخذ يمارسه بعد دقائق من شرح شفهي واستمر سنيناً في عمله دون أن يطَّلع تحريرياً على المهام المنوطة به (الوصف الوظيفي، صلاحياته، واجباته، حقوقه) أو يستند على مراجع سابقة تفيده في تنفيذ أعماله، أو يقرأ كتاباً في طبيعة عمله، فالمسألة منوطة بالسنع وحسن التدبير أكثر من القوانين واللوائح والانضباط النظامي والمصادر العلمية. والمدير العام الذي تحته مئات الموظفين يصدر بلمح البصر قرارا مهما، ويقرر ترقية وغيرها لموظف ما، مع عدم إلمامه بوضع الموظف سوى الانطباع الشخصي (إذا تجاوزنا الواسطة «فزعة النشامى»)، رغم وجود أنظمة ولوائح تحكم هذا القرار وتحد من سطوة المزاج الشخصي، القائد السياسي الذي أُقنع بين ليلة وضحاها بقرار مصيري يضع الدولة في مهب الريح، فأعلنه دون مراجعة أو استشارة رغم وجود الوقت والآلية التنظيمية والوسيلة للمناورة السياسية في اتخاذ القرار، المثقف الذي اطلع وقرأ كثيراً ثم مارس الكتابة دون أن يقرأ كتاباً واحداً عن كيفية أو أصول كتابة ما (مقالة أو غيرها) وأسلوب توظيف المعلومات ومنهجية الكتابة العلمية والموضوعية، المشتري الذي يقتني البضاعة حسبما يستدعي جيبه لا حسبما تستدعي حاجته...
ويشجع اقتصاد الريع القائم حالياً في أغلب الدول العربية النفطية (وفي كثير من البلدان العربية الأخرى) على الإنفاق والاقتناء وليس على الاستثمار وتنظيم الإنتاج. وأهم صفة سلبية ينتجها الاقتصاد الريعي هي إضعافه لقيم العمل والتفكير، فالثروة الهائلة موجودة في باطن الأرض كل ما هنالك مجرد حفر وبعض آليات وطرق بسيطة مباشرة، حيث غالبية قوة العمل اليدوية أجنبية... إلخ، هنا تتولد قناعات وبنى معرفية لا تعطي قيمة كبيرة لإعمال العقل والفكر فكما تستخرج الثروة من الأرض تستخرج نصوص التأويلات الماضية وقيمها وتسقط على الحاضر دون اعتبار لحركة التاريخ.
وأغلب الأطروحات الفكرية داخل المجتمعات العربية تنطلق من رؤية لا تاريخية لتبدُّل المراحل، ومن تفسيرات مغلقة لنصوص نظرية تسمو على الواقع مع ما يصاحبها من شعارات جميلة هي للأدب المتخيل أقرب منها للواقع المعاش. وفي ذلك بُعد حضاري لمكانة الخطابة في المجتمع العربي ذي نمط الاقتصاد الريعي، وسمو الخطاب فوق الوقائع. مثلاً، شاعر القبيلة القديم، حين يبالغ في تمجيد قبيلته وأخلاقياتها لا ينطلق من حقائق قدر انطلاقه من لعبة لغوية فخمة تعلي شأن قبيلته، فالتنافس بين القبائل لا تجديد كبيراً فيه على أرض الواقع بل التجديد ينبع من الخطاب والخيال الجمالي، لأن البيئة الصحراوية (مصدر الإنتاج) ثابتة وغير مسيطر عليها وهي كما هي دون تغيير، وبالتالي فإن أنماط المعيشة وأخلاقيات القبائل كما هي دون تبدل؛ فساحة التنافس، إذن، ليس الواقع الثابت زماناً ومكاناً إنما المتخيل المتنوع. وعدم التجديد في ذلك الواقع يعني أن دورة الزمان وتنقل المكان لا أثر فيها لتنامي اكتساب المعرفة وتجددها أو للتغير الاجتماعي أو تطويره ومن ثَمَّ تنبع الرؤية اللاتاريخية للأحداث والوقائع، وتتجسد الريبة من التطوير والتغير.
إن المهمة الأصعب والأكثر تعقيداً هي تمدين السلوكيات والقناعات القديمة عبر خطط مدروسة تراعي أعرافها وتحترم عاداتها وتقدم بدائل حقيقية. إذ، للأسف، حين تخطى الزمنُ القبيلةَ كتنظيم اجتماعي غير متناغم مع التحديث، عملت أنظمة عربية أو فئات عصرية نافذة على إقصاء القبيلة بالكامل، واصطنعت بدلاً منها تنظيمات حديثة من ورق، كالجمعيات والاتحادات والنقابات، وفقاً لنظريات بلا تطبيق وأفكار متعالية على الواقع. لم تهيئ المناخ للتغيير،لم تكترث برسوخ النمط القديم، لم تعتن بالنسق الناشئ. فتحولت تنظيمات حديثة إلى مسوخات محزنة أو بيروقراطية رثَّة. وحين يجدُّ أوان الجَّدِّ لأزمة طاحنة كانت الأنظمة تلجأ إلى التنظيمات القديمة، ولطالما رأينا أفراد الحزب الحاكم، في بعض الأقطار، يلجأون عند الاحتراب إلى تنظيماتهم القديمة (عشيرة، إقليم، طائفة)، وصار البديل المستحدث مسخاً مشوهاً أسوأ من سابقه المتخلف.
وعلى عكس المرتجى، حصل ترييف للمدن مما أدى إلى تهميش أو تراجع الدور المدني التحديثي والتنويري والإبداعي والتنوع الثقافي... إلخ، وتوسعت المدينة في نشر العلوم التقليدية النظرية على حساب العلوم العصرية الحديثة فأنتجت بطالة مقنعة ضخمة، واكتفت باستيراد التقنية المتقدمة دون إعادة إنتاجها أو تطويرها. وأدى ترييف المدن إلى تدهور البنى الفوقية والنخب المثقفة، كما يلاحظ من التراجع الكبير على المستوى الثقافي لحركة الإبداع والأدب.ويعمل تفاقم الهجرة العشوائية إلى المدن على زيادة الحراك الاجتماعي اضطرابا، نتيجة اغتراب المهاجرين وعدم اندماجهم بمجتمع المدينة، والبحث اليائس عن هوية مفقودة في زحام المدن، فينزع البعض إلى الجمود والتقوقع حفاظا على الهوية القديمة.بدون فهم طبيعة مجتمع ما وبنيته السابقة وأساسه التاريخي يصعب وضع برامج تنموية وخطط تطويرية وبناء مؤسسات المجتمع المدني. هناك العديد من القيم التي ورثناها يحتاج كثير منها للنقد، الإيجابي منها والسلبي على حد سواء، الفزعة مثلاً من القيم الإيجابية النبيلة ولكن عندما تتحول إلى واسطة في العمل تغدو آفة مضرة.. لذا ينبغي مراجعة هذه القيم ودراستها.. وعندها سنكتشف أن كثيراً منها قد انتهت صلاحيته.
|