أزعم ولا أجزمُ أن لبعض المواطنين قدْراً من الوزْر (المحرِّض) على انحراف بعض الذمم في جهاز يُعْنى بمصالحهم، بدّءاً بالمسؤول الأول في ذلك الجهاز وانتهاء بصغار موظفيه، ويصفُ (السيناريو) الافتراضي التالي الكيفية التي يمكن أن تنشأ في ظلّها هذه الظاهرة، وما يترتبُ عليها من (افرازات) تحرجُ الذمة، وتجرحُ الضميرَ، وتُفسدُ الأداء!
***
* ها كم المثال التالي، استشّهاداً لا حصْراً:
* تُسندُ إلى زيدٍ من الناس مهمةَ إدارة جهاز معني بمصالح المواطنين، كأمانة مدينة أو رئاسة بلدية أو إدارة مرفق عام ونحو ذلك، وقد عقد ذلك المسؤول في نفسه العزمَ على بذْل كل جُهدٍ ممكن لخدمة المنتفعين بأداء جهازه، ثم لا يكاد يستقرُّ به المقام في مكتبه حتى يجد نفسه محاطاً بكوكبةٍ من المتزلفين والمجاملين و(المطبلين)، يفدون إليه بادئَ الأمر باسم التهنئة، ثم يلازمونه في أوقاتٍ متلاحقةٍ بل ويتنافسُون في عرْض مظاهر الودّ له، فهذا يُولمُ له تكريماً، وذاك يُمطره بباقاتِ الثناء، وهو لما ير بعدُ من فعله شيئاً، وثالث يتقمصّ مسوحَ الناصح الأمين له، ورابعٌ يحملُ إليه (هدايا) رمزية، ونحو ذلك!
***
* وتتوالى مظاهرُ التزلُّف على صاحب هذه الولاية كلمَّا أصبح أو أمسَى، فإن كان ذا معدنٍ أخلاقي ومهني صلْب، لم تُغْره تلك الطقوسُ، ولم تحجبْ عنه الرؤية الشمُولية للدور المكلّف به، وإن كان من معدنٍ آخر، رضيَ بالمتزلْفين و«أرضَاهم»، وصارُوا ركْنَ شفاعةٍ له وعنده، وربما أضْحُوا (جسر) نفع لدى آخرين!
***
* هنا، لن أزعمَ بحال (نزاهة) هذه الصورة من المبالغة، لكنني أجزم بحضُورها بكيفيةٍ أو أخرى، كنمطٍ من أنماط السلوك الذي قد يُسْهم في (إفسادَ) مناخ الأداء السويّ لدى رئيس هذه المصلحة أو تلك، و(يزيّن) له فتنةَ الانحرافِ من حيث: يعلمُ أو لا يعلمُ، وكلا الأمريْن آفةٌ لا تُحمدُ لها عقبى!
***
* من جهة أخرى، يستطيع هذا الكاتب طرحَ المزيد من الأمثلة والمواقفِ الدالة على نمط (المعاناة) التي يواجهها مديرُ أيّ منشأةٍ تُعنى بمصالح الناس في تعامله معهم، وتتمثلُ هذه المعاناةُ في محاولة التوفيق بين أطرافٍ يضادُّ بعضُها بعضاً، في كثير من الأحيان:
أ) فهو من جهة، يطْمعُ في خدمة المواطن وكسْب تأييده، تجسيداً لواجباتِ وأخلاقياتِ الوظيفة التي يشغلها.
ب) لكنه من جهة أخرى، لا يستطيعُ أن يُغفل الأنظمة والتعليمات التي تكيّفُ أداء مصلحته، وتقّننُ تعاملها مع الجمهور المستفيد بها، معتمداً على الفرضية، القائلة بأنّ الأنظمة والتعليمات تُسنّ في الأصْل لخدمة السواد الغالب من الناس الذين يشْملهم مفهومُ (النفع العام)، ويبقى بعد ذلك واجبُ المواطن في تفهم هذا الموقف واحترامه، وبالتالي، عدمُ (إحراج) المسؤول المعني بالتطبيق، بهدفِ اختراقِ هذه التعليمات عبْر بوابة (الاستثناء) غير المبرر، أو (تزيين) الانحرافِ عنْها عمداً!
***
* وترتيباً على ما سبق، أدعو إلى مضاعفة الحيطة والحذر والسؤال قبل اختيار أيّ مخلوقٍ لشغل وظيفة رئيس مصلحة تتعامل مع الناس مباشرة، أيا كانت المساحة الجغرافية التي يشملها نفوذُ الوظيفة أو الرقعة البشرية المتأثِّرة بذلك، والأهمُّ قبل ذلك وبعده، توفيرُ (مناخ عمل) وظيفي ونفسي ومادي ملائم (يسْتلهمُ) منه هذا الرئيس أو ذاك (المناعةَ الأخلاقية) ضدّ أي (جرثومة) انحراف تتسللُ إليه من حيث يدري أو لا يدري، فتُحبط عمله، وتحبط أملَ منْ كان يرجُو منه خَيْراً وصلاحاً للبلاد والعباد!
|