|
|
لست أستاذاً في الإدارة لأشرّع لنفسي الحديث علميّاً عن الفكر الإداري، وعن المدارس القيادية في القطاعين العام والخاص في المجتمع المعاصر. ولذلك تتمحور هذه المداخلة حول المركزية الإدارية كما يمكن رؤيتها ممارسة من حيث انعكاساتها على معطيات مجتمعنا الكبير، ودلالاتها في منظومة رحلته الطويلة نحو التمدن، والتحضر، والتفاعل مع المجتمعات الأخرى في العالم. لعله من المستقر أن المركزية الإدارية لم تكن منهجا سيئا خلال عقود النشأة الأولى للمجتمع، بل يُحمد لمعظم مؤسسات المجتمع في القطاعين العام والخاص أنها قد حملت على عاتقها مهمة النهضة الشاملة للمجتمع وفق منهجية إدارية مركزية لم يكن لها بديل حينذاك، يوم كان التعليم العام الأساس مطلباً ملحاً للكبار والصغار، ويوم كان المجتمع يخطو خطواته الأولى نحو التطور والارتقاء في سلم الحضارة الإنسانية، بعد عقود سبقت من الجهل والفوضى والنقص الحاد في ضرورات البنية التحتية والفوقية على حد سواء. ولأن الهدف من كل خطط التنمية السابقة في المجتمع ولا يزال يتركز حول بناء الإنسان وتكوينه ليقوم بدوره الوطني باقتدار، فقد استطاع المجتمع السعودي بإشراف ومتابعة حكومية مباشرة ومتميزة أن يجمع في جيل واحد بين أب أميّ وأمّ أميّة، وابن أو ابنة يحملان أعلى الشهادات العلمية في أكثر التخصصات تعقيداً ومن أعرق الجامعات العالمية، وبذلك يكون المجتمع السعودي قد تجاوز سنوات الجهل وعقود التخلف، وتم بناء كياناته المتعددة وفق تأهيل علمي وتدريب عملي متقدم. تلك حقيقة مهمة تحسب للمجتمع السعودي، وتلقي على أبنائه تبعات كثيرة لمواصلة البناء والتطوير والقيام بدور إيجابي في دعم تلك العملية التنموية والرقي بها باستمرار. غير أن المعادلة الصعبة أمام جميع مؤسسات المجتمع الخاصة والعامة هي التحلل من فكرة المركزية الإدارية التي ربما لم تعد تلائم واقع المؤسسات المتعددة في المجتمع السعودي المعاصر، والتي تضم كوادر وطنية عالية التأهيل والتدريب يمكنها القيام باقتدار بأدوار مهمة وحيوية في دعم وظائف المؤسسة ومساندتها لتحقيق أهدافها بأفضل النتائج، وبأقصر الطرق الممكنة، وبأقل تكلفة. تلك هي المعادلة الصعبة اليوم أمام مؤسسات المجتمع: أن تجمع بين التوظيف الكامل لكل كيانات وعناصر المؤسسة، وأن تحقق من خلالهم عوائد وظيفية متكاملة متفق عليها، تجعل مؤسسات المجتمع في تنافس مستمر لتقديم الأفضل والأصلح والأسلم من أجل رعاية وصيانة المصلحة العليا لجميع مؤسسات المجتمع: المصلحة الوطنية. ولعله من المستقر علماً ومهنة الآن، أن المركزية الإدارية لم تعد قادرة على الإفادة من خبرات وتجارب كل عناصر ومركبات المؤسسة، وأن الأولى إخضاع منهج إداري آخر للتجريب يكون كل الموظفين والعاملين فيه جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الإدارية للمؤسسة. ربما أُتينا من هنا، من ثغرة موجودة بين إداريين مركزيين في عدد من مؤسساتنا العامة والخاصة، وبين كفايات بشرية عالية التأهيل وفائقة التدريب، لكنها غير قادرة على نقل تجاربها وخبراتها بالقدر الذي يتطلع إليه هؤلاء الإداريون، ويتطلع إليه من حولهم، المجتمع الكبير. |
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |