ليست مشكلتنا مع التطرف كما أراها تكمن فقط في مناهج التربية الدينية في المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية كما يصر البعض، بقدر ماهي تكمن في المعلمين أولاً هذه حقيقة لا بد لنا من مواجهتها.
فلا مناص من الاعتراف ان أغلب -ولا أقول كل- معلمي أطفالنا وشبابنا في التربية الدينية منغلقون؛ فهمهم للحياة المعاصرة وثقافتها ومعارفها فهمٌ ساذج وبسيط ومحدود. والسبب يعود في تقديري إلى ان متطلبات التخرج من المواد العلمية في كليات الشريعة وعلوم الدين تنحصر في المواد العقدية والفقهية واللغوية، ولا تتعداها إلى علوم العصر الأخرى، مثل علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الاقتصاد، وعلم السياسة، وعلم المنطق، وعلم القانون الدولي؛ وغيرها من العلوم الانسانية الأخرى التي من شأنها تشكيل ثقافة معلم التربية الإسلامية تشكيلا نوعيا أفقيا وليس رأسيا، بالشكل والمضمون الذي يكون فيه واعياً بالحياة المعاصرة، قادراً على تصور طبيعة الأمور المؤثرة على مجتمع اليوم.
وكنتُ أناقش واحداً من خريجي إحدى كليات الشريعة الملتزمين، ويعمل في سلك التعليم، وكان متفوقا عند تخرجه كما أخبرني، عن الفرق بين «النقود» في ظل اقتصاد المقايضة، كما كان الأمر في زمن المدينة، وبين «النقود الائتمانية» أو النقود الورقية في الدولة المركزية كما هي عليه اليوم؛ على اعتبار ان هذا التباين له علاقة جوهرية بمسألة الحلال والحرام وتطبيقاتها على مجريات شؤوننا الحياتية.
فوجدته -للأسف- في غاية السطحية في هذه الأمور، وبالذات عندما قال لي وبسذاجة متناهية: ما الفرق بين الدينار والدرهم في زمن المدينة وبين الريال في زماننا أو الدولار؟ فالفرق -والحديث مازال لصاحبنا -في التسمية وطبيعة خام النقود ليس إلا!.
وعندما تحدثنا عن العلاقات الدولية، وإذا هو يُقسمُ العالم، كل العالم، إلى قسمين: دار حرب وآخر دار إسلام.. دار الإسلام -كما قال- هي دار المسلمين، ودار الحرب هي دار غير المسلمين؛ والعلاقة بين الدارين هي -في رأيه- إمّا علاقة جهاد وقتال أو هي علاقة سلام وجزية؛ ثم أوضح قائلاً ليبدو فيما أظن أكثر واقعية وموضوعية: وهذا لا يعني أنني أطالب بالجهاد اليوم، حيث لا تكافؤ بين المسلمين والكفار في العدة والعتاد، ولكن عندما يتحقق التكافؤ يصبح القتال أو الجزية الخيارين اللذين لا ثالث لهما في علاقاتنا الدولية مع الآخرين!.
وعندما سألته عن نظرية «العقد الاجتماعي» التي تقوم عليها المجتمعات الحديثة فغَر فاه، وقال: مَن مِن علمائنا قال بهذه النظرية؟.
ذهلتُ وأنا أسمع مثل هذا الكلام، وتأكدت أن قضيتنا مع التطرف الديني هي مشكلة معرفية، مشكلة ثقافة لا ترى الحياة إلا على أنها كالماضي تماماً، فهي عند صاحبنا وأمثاله حياة ثابتة جامدة لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمان والمكان؛ فالماضي والحاضر عندهم صنوان لا يختلفان؛ والظروف التي تختلف اليوم عنها في الماضي لا قيمة لها في تصورهم فضلا عن معاييرهم البتة. إنها -للأسف- ثقافة لا تغوص إلى عمق الحياة المعاصرة ومتغيراتها ولو قدر شبر.
وأنا هنا لا أفتي في الحلال والحرام، فهذا ليس شأناً من شؤوني ولا تخصصي، بقدر ما أطالب من يتصدى لمثل هذه الأمور، وبالذات من معلمي فلذات أكبادنا في أمور دينهم، ان يكون ملماً بعلوم عصره، ومتغيرات زمانه الذي يعاصره، وأن يدرك مدى اختلاف مُكتنفات ظروف يومه عن مكتنفات ظروف ماضيه؛ على اعتبار ان الحكم على الشيء فرعٌ من تصوره. وهذا لايمكن ان يتحقق إلا عندما ننتبه إلى غرس متطلبات ثقافة العصر، وحقائقه، ومنجزاته المعرفية، في أذهان شبابنا ليس في تعليم ما قبل الجامعة فحسب، وإنما في التعليم التأهيلي الجامعي أيضاً؛ ليكون خريج الشريعة أو أصول الدين -مثلاً- قادراً على فهم الحياة المعاصرة، ليتسنى له بالتالي التعامل مع «الحلال والحرام» بما يحقق مصلحة المسلمين في دنياهم وآخرتهم. يتساوى هنا المعلم بالداعية بخطيب الجمعة بالقاضي، وكل من له صلة بإرشاد الناس ووعظهم وتوجيههم أو الحكم بينهم.
|