هناك ألوان من الخوف، لا أعني الخوف من الله - سبحانه وتعالى- وإنما صفة الخوف وغريزته، هناك ألوان منها تدخل في قائمة الإفراط، وربما المرض!
1- الخجل:
الخجل الذي ينتج عن فقدان الإنسان الثقة بنفسه.
فهو يرتبك في مقابلة الأشخاص الكبار، الذين لايعرفهم من قبل، أو الغرباء، ويجف ريقه، وينعقد لسانه، وربما يقول كلاماً لم يكن في نيته أن يقوله، ويغلط غلطاً كبيراً.
وأذكر بهذه المناسبة الطرفة التي ذكرها الذهبي في السير، وغيره فهي مشهورة، حتى إن بعضهم قالوا: إن سندها صحيح، وهي ان ابن الجصاص دخل يوماً على ابن الفرات الوزير الخاقاني وفي يده بطيخة كافور فأراد ان يعطيها الوزير ويبصق في دجلة فبصق في وجه الوزير ورمى البطيخة في دجلة فارتاع الوزير وانزعج ابن الجصاص وتحير وقال: والله العظيم لقد أخطأت وغلطت أردت ان أبصق في وجهك وأرمي البطيخة في دجلة.
فقال له الوزير: كذلك فعلت يا جاهل.
فغلط في الفعل وأخطأ في القول.
ونظر يوماً في المرآة فقال: اللهم بيّض وجوهنا يوم تبيضّ وجوه وسوّدها يوم تسودّ وجوه!!
وأذكر قصة أخرى وقعت لبعض الزملاء.
وهي أن طلاب الكليات كانوا يتدربون على إلقاء الدروس في المدارس المتوسطة والثانوية في السنوات النهائية.
فكان أحد الطلاب وهو يتدرب مرتبكاً، ولأول مرة يقف أمام الطلاب، فكتب على السبورة.
وبعد قليل أخذ المساحة، ومسح ما كتبه على السبورة بعدما انتهى منه، ثم أمسك بالمساحة معه، وكان يتصبب عرقاً بسبب صعوبة الموقف؛ فما كان منه إلا ان مسح عرقه بهذه المساحة!!
وأصبحت جبهته بيضاء كالثلج!!
هذه مواقف يمكن تكون صارخة، لكن هناك مواقف صغيرة تقع لأي واحد منا نتيجة الخجل.
الخجل يحمل الطالب -مثلاً- على عدم المشاركة في الفصل، ولعله يعرف الجواب لكن لايستطيع ان يقوله، ولو أشكل عليه شيء لايتجرأ على سؤال الاستاذ عن هذا الذي أشكل.
يحمل الإنسان على عدم التحدث، عدم إلقاء الكلمات أو المواعظ، أو الدروس أو الخطب في المساجد، أو عدم إمامة المصلين؛ لأنه يشعر إزاء ذلك بقلق كبير، وإحساس ضخم جداً بإمكانية الخطأ، ولو حصل خطأ يسير، فإن هذا الخطأ يدمره نهائياً، ويجعل هذا الخطأ بين عينيه، لايمكن ان ينساه أبداً، ويعتبر ان هذا الخطأ هو مقبرة مواهبه، وأحلامه!!!
الخجل الذي يحمل الإنسان على عدم نصح الآخرين أو توجيههم.
فقد يرى أحداً ارتكب خطأ، وهو يعرف هذا الخطأ ويعرف دليله، لكنه لايتجرأ على أن ينبهه، حتى لو كان في مثل سنه أو أصغر أو أكبر، لأنه يشعر بفقد الثقة بالنفس.
الخجل الذي يجعل الإنسان لايستطيع أن يماكس في البيع والشراء والمعاملات التجارية.
لعله يدخل عند صاحب دكان؛ فبمجرد وقوفه عند سلعة يقول صاحب الدكان: هذه سلعة ممتازة، وهذه نوعها كذا، وصناعتها كذا؛ فيضطر إلى أن يأخذها، ويدفع له القيمة دون ان يكون نوى شراءها، لكنه لم يستطع ان يتخلص من هذا الموقف، أو ان يقول له سعرها مرتفع، أو وجدتها في المكان الفلاني بأقل من هذا السعر.
بل الخجل الذي يحمل الإنسان على عدم الرفض عند الأولاد، وعند البنات.
أي: قد يُسام الإنسان خطة ضيم؛ كما يُقال، ويُطلب منه ما لا يحمد في خلق، أو في دين، أو لمصلحته الدنيوية؛ فلا يستطيع أن يرفض.
لم يتدرب على ان يقول كلمة «لا» يشعر بثقل!
ولذلك يُجاري الناس، ويستطيع الكثيرون ان يضعوه في اتجاه معين يحملونه به على أن يسايرهم، ويوافق على مايقولون له، وهو بخجله لا يستطيع أن يعترض، أو يرفض أو يتأبى.
الخجول يظن أن الأضواء دائماً مسلطة عليه، وأن الناس ينظرون إليه، وكلما رأى أحداً يبتسم، قال: هذا يضحك مني، وكلما رأى اثنين يتهامسان، قال: يتهامسان بشأني.
لديه حساسية مفرطة، وصعوبة على تحمل المواقف الجادة.
هذا نموذج من الخوف الزائد، وهو الخجل.
الخجل يمكن ان يقاوم بأساليب وحلول - وان كان هذا ليس موضوعنا، ولكن كأمر عابر - منها:
أ- التدرب:
فإن الإنسان مهما كان إذا تدرب على الأشياء، استطاع ان يزيل كثيراً من المخاوف التي تصاحبها، فيمكن ان يتدرب -مثلاً- على الإلقاء في بيته، ثم مع مجموعة من أصدقائه ثم في الحلقة، ثم في الفصل في درس التعبير، ثم في بعض مساجد القرى وهكذا!!
ولو سمعتم قصص بعض مشاهير الدعاة والخطباء والقراء، لضحكتم منهم ملء أفواهكم!
أذكر أحدهم قام يتكلم في مسجد قرية، ويُعرّفُ التقوى، وهو قد حفظ مايريد أن يقوله، لكنه ارتبك!
فكان يقول لأهل القرية: التقوى ان تطيع الله، على خوف من الله ترجو ثواب الله، وتخشى عقاب الله سبحانه وتعالى.
وان تعصي الله على خوف من الله ترجو...!!! لأنه نسي، وان تترك معصية الله فلم يكن يفهم ما يقول.
وآخر كان معه ورقة فطارت بها الريح، وهو يخطب فارتبك، وطلب من الجماعة ان يلحقوها، ولم يفعلوا، واضطر إلى ان ينزل من المنبر!!
ولذلك عند العامة مثل يقول: (الصنعة عورة حتى تكتمل).
أي: لو سألت بعض مشاهير الخطباء والدعاة والمتكلمين والذين يألفون أعواد المنابر عن تجاربهم الصغيرة وبداياتهم، لوجدت أنها كانت أشياء فعلاً يستحي منها، لكنهم هم لم يستحوا ان يصبروا ويتحملوا الموقف الأول والثاني، بل وان يتحدثوا عن هذا حتى يكون عبرة لغيرهم، وألا يكون الخطأ سبباً في القعود واليأس.
ب- التدرج:
فإن على الإنسان ان يتدرج في كل شيء.
يتدرج في طريقة الإلقاء، فأول مرة من الممكن ان تقرأ من كتاب، وعادة الكثيرين بمجرد ان يكون أمامه كتاب يقرأه لايجد صعوبة في هذا الأمر.
الخطوة الثانية: ان تكتب أنت موضوعاً في البيت، ثم تقرأه والورقة أمامك، وهذه أفضل من الأولى.
الخطوة الثالثة: ان تكتب عناصر الموضوع، وخطوطه الرئيسة وتضيف إليه تعليقات وشروحاً بسيطة من عندك.
الخطوة التالية: هي ان تلقي الموضوع إلقاء، وتكون حفظته أو قاربت حفظه.
وكذلك التدرج في نوع من تخاطبهم، في مستوى المخاطبين، في عددهم.
إلى غير ذلك من الأسباب.
ج - ملاحظة الأسوياء والطبيعيين:
لأنك حينما تلاحظهم تكتشف ان عندك خطأ معيناً.
فلاحظ ان هذا الطالب -مثلا- يخطئ ويضحكون عليه، ثم يشاركهم هو في الضحك، ويذهب إلى كرسيه كأنّ شيئاً لم يكن.
ومن الغد عنده استعداد ان يقوم، ويكرر المحاولة مرة أخرى.
لماذا لا أكون أنا مثله أيضاً؟!!
وملاحظة الأسوياء تحمل الإنسان على أن يحاول أن يتجاوز المشكلة الموجودة عنده.
د- إدراك المواقف على طبيعتها:
لأن المشكلة ان هذا الإنسان الخجول تصور ان الآخرين يحملون عنه إحساساً معيناً، فربما حمله ذلك على الخجل وعلى هذه المواقف، لكن لو أدرك ان الناس لايحسون بما لديه، أخطأ - مثلاً- وتكلم الناس، ثم ماذا انتهى الأمر، وقد نسوا، وليس إلى الأبد سوف يتحدثون عن خطأه.
بعد اسبوع أو أقل بإمكانه ان يجدد المحاولة مرة أخرى.
شيء آخر: لو فرض أنك تكلمت، وظهر عندك ارتباك في الكلام، وتلعثمت شيئاً ما!
لا تظن ان الآخرين بالضرورة أدركوا هذا الارتباك الذي عندك.
قد يتصور الآخرون أنك قدمت الموضوع كأفضل ما يمكن ان يكون، ولم يدركوا هذا الارتباك الذي عندك، وهذا أمر معروف ومدروس!
ان الناس لايستطيعون ان يدركوا بالضبط مشاعر المتحدث، وهل هو يشعر بارتباك، أو يشعر باطمئنان، أو غير ذلك، لأن بعض الناس إذا كان مرتبكاً، وظن ان الناس يدركون انه مرتبك زاد ذلك من ضعفه وانزعاجه.
من النماذج -نماذج الخوف المرضي المضاعف- ما يسمونه: بالخوف العُصابي، أو القلق العُصابي.
نحن دائماً نسميه القلق.
هناك كتب كثيرة تقول دع القلق ومنها كتاب دع القلق وابدأ الحياة لديل كارينجي، وهو صاحب مدرسة في علم النفس في الغرب، وهذا الكتاب مفيد، وان كان فيه ثغرات، وقد لخصه الشيخ عبدالرحمن السعدي في رسالة صغيرة (الوسائل المفيدة للحياة السعيدة).
وهذا يدل على ان الكتاب فعلا مفيد، وقد قرأته ووجدت أنه يمكن ان يُنصح به، وتُجتنب فيه أشياء.
فالقلق أو الخوف العصابي ينتج عن توقع خطر في المستقبل يمكن ان يُلم بالإنسان، فالخوف من الموت -مثلاً- يعتبر نوعاً من القلق العصابي، ليس الخوف من الموت مطلقاً، لأن الخوف من الموت إذا كان يحمل الإنسان على الطاعة والمسارعة إلى الخيرات والمبادرة بالعمل الصالح، فهو محمود، لكن إذا زاد الإحساس بالموت عند بعض الناس كأن يقول:
أنا دائماً أتخيل الموت عند الأكل، عند الشرب، عند معاشرة أهلي، عند النوم، عند العمل.
علماً أن مجرد الخوف من الموت ليس محموداً، وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد هذا المعنى وهو يتكلم عن خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن خطبه مجرد نعي الناس، والحديث عن الموت والبلى، وكيف تكون أجسادهم في القبور وما أشبه ذلك.
وإنما كان فيها المعاني العظيمة، والحث على العلم النافع، وعلى العمل الصالح وعلى الهدى ودين الحق.
ثم ذكر كثيراً من الخطباء المتأخرين الذين حفظوا بعض الرسوم، ونسوا المعاني، ونسوا الحقائق.
وأصبح كثير منهم يتكلمون عن الموت، وكيف يكون الإنسان بعد الموت، وكيف يفعل الدود في بدنه، وما أشبه ذلك.
ويثيرون لدى الإنسان من الموت مخاوف سلبية، وليست المخاوف التي تحمل الإنسان على العمل، وعلى المبادرة، وعلى الطاعة، وعلى العبادة.
مسألة الاعتدال في الخوف:
مع أن الموت في حد ذاته قد يفرح المؤمن بلقائه أحياناً، فعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه).
ومحمد إقبال كان يقول:
عادة المؤمن ان يلقى الردى
باسم الوجه سروراً ورضا
الخوف من المرض:
الإنسان دائماً يتخوف من الأمراض، مجرد ما يصيبه صداع في رأسه يتوقع ان هذا ورم في الدماغ.
وبمجرد ان يعرض له عارض مغص في البطن ظنه فشلاً كلوياً، وهكذا يكون مسكوناً بالخوف من الأمراض.
هذا الخوف قد يكون هو مرضاً بحد ذاته، وربما يكون أشد من المرض الذي يتخوفه.
ولذلك يقولون: إن الحقائق أثبتت ان هناك أناساً ماتوا بالطاعون، وبتحليل أبدانهم وُجد أنه لم تدخل أبدانهم جرثومة الطاعون مطلقاً، وإنما شدة الخوف والتوهم ولدت عندهم هذا الأمر.
ويذكر في الأساطير:
ان رجلاً مرَّ به وباء الطاعون.
فقال الرجل للطاعون: إلى أين تذهب؟
قال: إلى قرية كذا وكذا، فإني أُمرت بخمسمائة رجل فيها.
فذهب الطاعون وحصد خمسة آلاف رجل في القرية، ورجع أدراجه، فمرَّ بالرجل.
فقال له من أين أتيت؟
قال من قرية كذا.
قال: إنك أخبرت أنك سوف تحصد خمسمائة، والواقع ان الاحصائيات أثبتت أنك حصدت خمسة آلاف؟!
قال: أنا أُمرت بخمسمائة، أما الباقون فقد قتلهم الخوف والوهم.
الخوف من الفشل:
كثير من الناس كلما هم بعمل مشروع علمي أو عملي، أو تجاري أو دعوي، أو أي شيء آخر، فإن المخاوف من الفشل تعوقه عن هذا العمل!!
إذا كان خوفاً معتدلاً يحملك على أن تدرس الجدوى، وأن تخطط للموضوع تخطيطاً سليماً، وأن تستشير وألا تتعجل فهذا جيد.
أما إذا كان الخوف من الفشل خوفاً مرضياً، قلقاً عصابياً، يجعلك لا تقدم على أي مشروع، ولا تقوم بأي عمل فلاشك أنه حينئذ بحاجة إلى علاج.
الخوف من المسؤولية:
كثير من الناس لايريد ان يتحمل مسؤولية، لايريد ان يتحمل مسؤولية الأسرة، ولذلك تجده يؤجل أمر الزواج، لايريد ان يتحمل مسؤولية عمل معين يسند إليه، لايريد ان يتحمل مسؤولية طلاب في حلقة أو درس، لايريد ان يتحمل مسؤولية أحد قط، لأنه يخاف من هذا الشعور بالمسؤولية.
الخوف من التفكير:
فإن كثيرا من الناس يخافون ان يفكروا في الأشياء،يخافون ان يحللوا الأمور، يخافون ان يدخلوا إلى أعماقها، فيكتفون بالرؤية السطحية، بالنظرة المجردة دون ان يدخلوا إلى العمق.
لو أن أحداً منهم قرأ كتاباً -مثلاً- تجده لايربي نفسه على أن يفكر في:
هذا الكتاب.
ومضامينه.
ومعلوماته.
ونتائجه، هل هي صحيحة أم لا؟
هل عليها دليل أم لا؟
هل هي دقيقة علمية أم أنها ظنون؟
هل فيها إجمال، أم تحتاج إلى نوع من التفصيل؟
يريد ان يربي نفسه على التلقي المطلق لما يقرأ، وما يسمع سواء من فرد، أو من مجموعة، أو من مدرسة، أو من أسرة، دون ان يكلف نفسه مؤنة التفكير والنظر، والتعمق في مثل هذه الأشياء.
|