أخذت أتصفَّح أحاديث أستاذنا علي الطنطاوي عن - قراقوش -، فقرأت كلاماً محقَّقاً دقيقاً، أنصف ذلك البطل، سند المجاهد صلاح الدين الأيوبي، رطَّب الله ثراه.! وتذكرت مقولة القائد الفرنسي الساذج، الذي دخل سورية مع جنوده الغزاة، وقصد قبر صلاح الدين في دمشق، وقال له: ها قد عدنا يا صلاح الدين.!
وما فعله القائد الفرنسي في القرن العشرين يشبه ما قرأنا وسمعنا عن مسلح يفاجىء أعزل ليتحداه في القتال، ولعلي أقول اليوم، ولابد أن غيري قد سخر من مقولة القائد الفرنسي في سخافته، وقال: لو قلت ما قلت وصلاح الدين شاهر سلاحه وهو يذود عن حياض المسلمين في ديارهم، وأتيح لكم النصر، فإننا نعترف بالهزيمة، وهي ليست نهاية أمَّة طامحة، لا ترضى بالذل، لأنها خُلقت حرة عزيزة، ونحن يشهد لنا التاريخ بأننا أمة جادة، لا تقبل الهوان.! والعربي الشجاع يعترف لخصمه بحقه في الانتصار.! ألم يقل قائلهم:
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها
ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
وأقول مرة أخرى للقائد الفرنسي: «يانك» يوم حرب حطين، وقد انهزم قومك ليس في فرنسا وحدها، وإنما في أوربا كلها، حيث نكست أعلامها من مرارة الهزيمة والاندحار، أمام أمة كانت تحب الموت، كما يحب أعداؤها الحياة!؟
* معذرة، فقد حلت بي عدوى الأستاذ العميد طه حسين، الذي يشكو في بعض المواقف، أن الأستاذ إبراهيم المازني عداه بداء الاستطراد، وحديثي ينبغي أن ينحصر في قراقوش وحده، حتى لا يلحقه مني ظلم، ولكن الشجى يبعث الشجى كما يقال.
وقد عرفت أن أظهر حسناته وريادته في حياته الحافلة بالبأس والجهاد، إلى جانب البطل القائد صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله -، قد استحق نصر ربه، لأنه يجاهد لتكون كلمة الله هي العليا.!
* ثلاث صفحات فقط، ذلك نصيب قراقوش، في كتاب الأستاذ علي الطنطاوي رحمه الله: «رجال من التاريخ».! ولعل العبرة ليست بالكثرة، وإنما بالاتقان وتلمُّس سبل الحق، وتعرية الباطل لأنه زائف، وكما دافع الأستاذ الطنطاوي عن قراقوش الذي ظلمه «ابن ممَّاتي»، وهو «كاتب بارع كما وصفه الطنطاوي، وأديب طويل اللسان، كان موظفا في ديوان صلاح الدين، وكان الرؤساء يخشونه ويتملقونه بالودِّ حينا، وبالعطاء أحياناً.. ولكن قراقوش وهو الرجل العسكري الذي لا يعرف الملق ولا المرارة لم يعبأ به، ولم يخش شره، ولم يدر أن سن القلم أقوى من سنان الرمح».! ويعلن الشيخ الطنطاوي، أن المتنبي أساء إلى كافور فألبسه وجهاً غير وجهه الحقيقي، وأساء ابن ممّاتي إلى قراقوش، فألبسه وجهاً غير وجهه الحقيقي».!
* إذاً فإن قراقوش - راح ضحية الأدب المفتري -، كما يقول الشيخ علي الطنطاوي، حتى أضحى مضرب المثل لكل فوضى وفساد، فتردد الألسنة غير الواعية، تلك المقولة التي حفظتها الأيام وانحفرت على صفحاتها: «حكم قراقوش».!
* و- قراقوش -، معناها بالتركية، كما يقول الأستاذ علي الطنطاوي - رحمه الله -: «النسر الأسود»، ف - قوش - تعني «النسر»، - قرا - معناها - الأسود -.!
والحسد في الحياة قديم كما يقول الشاعر عمر بن أبي ربيعة: «وقديماً كان في الناس الحسد».! فقراقوش شخصيتان، حقيقية، وهي أنه رجل إداري شجاع مخلص ملتزم، ولذلك اختاره البطل المجاهد صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله وغفر له -.. والصورة الأخرى، هي التي ألصقها به أعداؤه ومن ينافسه في دوره ونجحه، وهذا شيء طبيعي في حياة الناس.!
* ولست أستغرب، أن تبرز الصورة الشائهة لهذا الرجل المقدام الجاد، وتختفي الصورة الحقيقية له، لقد بقي الباطل، وإن كان لا يدوم، واختفى الصحيح، لأن الأهواء المريضة تروِّج وتعنى بالزيف، فيطفو على الواجهة، غير أنه لا يصح إلا الصحيح كما يقال.!
* يقول الأستاذ علي الطنطاوي في تعريفه لقراقوش، أنه: «أحد قواد بطل الإسلام صلاح الدين الأيوبي، كان من أخلص أعوانه ومن أقربهم إليه، وكان قائداً مظفراً، وكان جندياً أميناً، وكان جندياً أميناً، وكان مهندساً حربياً منقطع النظير».. إنه رجل عسكري مطيع لقائده في تنفيذ الأوامر بما يكلف به، و«كان أعجوبة في أمانته، وفَّى الأمانة حقها، ولم يأخذ لنفسه شيئاً، ولا ترك أحداً يأخذ منها شيئاً! وتلك القلعة الشامخة الباقية في المقطم بمصر أثر من آثار قراقوش، وهو الذي بنى سور القاهرة وما زال له آثار وأقام فيه الجامع وحفر البئر العجيبة في القلعة، هو قراقوش».
* ويذكر الأستاذ الطنطاوي، أنه بعد وفاة صلاح الدين، قام خلاف بين ورثته، وكادت تقع بينهم حروب، غير أن قراقوش تدخل بشجاعته وإخلاصه، وحل بينهم النزاع.
* مات قراقوش الحقيقي، وعاش قراقوش الفاشوش، من صنع ابن - ممَّاتي -، كما نسي عنترة الواقع، وبقي عنترة القصة، وهذا سلطان الأدب «، كما يؤكد ذلك الشيخ الطنطاوي غفر الله له.!
* ولعل مَنْ يعنون بتاريخنا، ويلقنون أبناءنا وبناتنا شيئا من تاريخنا المجيد، أن يلقنوهم الحقائق التي لا زيف فيها ولا دس ولا افتئات، وذلك لتصحيح الأفهام العامة، التي تعنى بالقشور، وتترك اللباب، وصدق المتنبي القائل:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم |
|