الأصل في الفنون عامة ومنها الكتابة الأدبية الملكة أي الاستعداد وبدون الملكة يمكنك أن تصبح كاتباً غير أديب أي بدون أصالة وبدون طابع يشير إليك ويدل عليك وقد دلت الملاحظة على أن غير قليل من الناس ذوو أصالة أدبية من حيث لا يعلمون وتأتي الصدفة والصدفة وحدها، فيستيقظون بعد هجوع ويجربون أقلامهم مرة بعد مرة فلا يلبثون إلا قليلا حتى يرتفع بين القراء والأدباء ذكرهم ويصبحوا أدباء لامعين لا يدورون في أفلاك شيوخ الأدب، ولكن الأدباء الناشئين حولهم يدوون.
وأذكر من أمثلة ذلك الشيخ علي يوسف من كتاب جريدة «اللواء المصرية» التي كانت منذ خمسين سنة تقارع الإنجليز المحتلين. بدأ يكتب مقالات غير ناضجة في الجريدة يضحك منها زملاؤه المحررون حتى قرأ الأمير شكيب أرسلان إحدى هذه المقالات فصاح في وجه أصحاب اللواء: هذه هي الأصالة، هذه هي العبقرية.
انه النبوغ المبكر. وصدقت نبوءة الأمير فما انقضى عام أو بعض عام حتى تفجرت عبقرية الشيخ علي يوسف السياسية والبيانية عن مقالات كأنها الصواعق المحرقة قوة والسبيل العذب جمالاً وحسن بيان.
وقد أتيح لي أن أقرأ اتفاقاً بعض هذه المقالات فإذا هي في قوة أسلوبها ويقظتها شيء لم يعرف ما يشبهه أو ما يقاربه في كل ما قرأنا لشيوخ الأدب في تاريخ الأدب القديم والوسيط والحديث.
ولكن كيف تكشف أنك أديب؟ يقول الباحثون الاجتماعيون أن الله تعالى وهب برحمة منه كل إنسان ملكة تعينه على الظهور والتفوق وترك له أن يكتشف ذلك بنفسه وتجربته وتأمل أشواقه الضيقة في غور نفسه ورتبوا على هذه النظرية نظرية وجوب ترك الصغار على سجيتهم وفطرتهم ليعبروا في عفوية وحرية عن ملكاتهم ثم التركيز على هذا الملكات لانضاجها وتفجيرها لتشق طريقها إلى عجلة القيادة.
شبابنا الذين يعشقون الأدب ويطربون للتعبير الجميل يشعرون بشيء من القلق ويتساءلون عما إذا كانوا هم أدباء بالفطرة ولا يشعرون.
إن الباحثين الفنيين يعتقدون أن الشوق الشديد إلى فن من الفنون يعني وجود بذور هذا الفن في طبيعة المشتاق وما عليه إلا أن يتدرب على آلة الإفصاح والبيان. وأود من القارئ أن يحاول قياس فطرته الأدبية بتأمل درجة استجابته وانفعاله بالقول البليغ.
هل تشعر بقوة التحدي في قوله تعالى:
{يّا أّيٍَهّا النَّاسٍ ضٍرٌبّ مّثّلِ فّاسًتّمٌعٍوا لّهٍ إنَّ الّذٌينّ تّدًعٍونّ مٌن دٍونٌ اللَّهٌ لّن يّخًلٍقٍوا ذٍبّابْا وّلّوٌ اجًتّمّعٍوا لّهٍ وّإن يّسًلٍبًهٍمٍ الذٍَبّابٍ شّيًئْا لاَّ يّسًتّنقٌذٍوهٍ مٌنًهٍ ضّعٍفّ الطَّالٌبٍ وّالًمّطًلٍوبٍ مّا قّدّرٍوا اللَّهّ حّقَّ قّدًرٌهٌ إنَّ اللَّهّ لّقّوٌيَِ عّزٌيزِ }
هل تحس صدق العاطفة في رثاء الخنساء لأخيها صخر إذ تقول:
ولولا كثرة الباكين حولي
على اخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنهم بالتأسي
وهل تدرك الأبعاد العسكرية والتاريخية في قول شوقي محيياً انتصار أتا تورك:
الله أكبر كم في الفتح من عجب
يا خالد الترك جدد خالد العرب
هل تحس أن الكلام البليغ يمازج روحك ويتغلغل في كيانك ويقيمك ويقعدك ويترك في غورك أصداء لا تبلى تسمع روحك رنينها ما حييت.
إذن فأنت أديب وإن جهلت أنك أديب ويلزمك بعد أن كشفت حقيقتك أن تلتمس آلة البيان وقوامها اللفظ الفصيح والتركيب الذي يجمع بين القوة والجزالة:
مما لا جدال فيه أن كتاب الله تعالى هو قمة البيان التي لا تطاول ثم تجيء أحاديث الرسول وفيما عدا ذلك يختلف الرأي. كان شوقي يقول «إن زادي بعد كتاب الله وأحاديث رسوله الأعظم «الأغاني» وكان محمود عزمي من كبار الصحفيين يوصي بقراءة كتاب كليلة ودمنة ويراه ذخيرة اللفظ الفصيح والتركيب البياني القوي وآخرون وهم الجمهرة الغالبة يوصون بتعلم البيان من ابن المقفع في كتابيه الأدب الصغير والأدب الكبير.
ومن الجاحظ في كتبه البيان والتبيين والحيوان ورسالة البخلاء ومن شعر المخضرمين وبعض شعراء الأمويين والعباسيين: ولا تنس العقاد ولا تنس سيد قطب ذا الأسلوب القوي المتين والآن عليك أن تبدأ التجربة فأشرع قلمك وكن من أهل الدأب والإصرار وأعرض بواكيرك على كاتب أديب تعجبك كتابته فإنه يستطيع أن يخبرك إن كنت ستصبح أديب قمة أو أديباً وسطاً أو مجرد كاتب أديب.
إن الحياة كلها بخيرها وشرها وحسنها وقيمها ميدان الكاتب الأديب. إنه يصف الركع السجود في بيوت الله فتشعر بجلال العبادة والخشوع وبما في الخضوع لله والتسليم له من روح وطمأنينة ويصف السكارى والفساق في ضجيج العربدة في الحانات فتقشعر اشمئزازاً وتأخذك الرحمة والشفقة على هؤلاء التعساء الذين ضلوا السبيل.
وهكذا تجد الأديب في كل ركن من أركان الحياة يرسم ويصور ويوجه مترجما أحلام الإنسان وإشراقه واصفاً رضاه وسخطه ليصنع العقل الجديد والمفهوم الجديد والإحساس الجديد.. ان الأديب يحدث أهل جيله عن الفجر الذي يريد أن يبزغ.
إن قلب الأديب الصادق لا يعرف غير الرحمة ولا يدعو إلا بالحكمة والموعظة الحسنة ولا يجادل إلا بالتي هي أحسن.
إن الأنبياء هم أعلى الأدباء مرتبة. إنهم رسل السماء حملوا للناس مشاعل الحياة البناءة..
جاء النبي برسالة التوحيد نقية وضاءة فثار في وجهه كفار قريش ويقول الله لنبيه {$ّاصًبٌرً عّلّى" مّا يّقٍولٍونّ $ّاهًجٍرًهٍمً هّجًرْا جّمٌيلاْ} ويدعو النبي ربه «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» وقد يموت الأديب طريداً غريباً وعندما يمد الموت أصابعه ويسبل جفني الأديب على عينيه يسمع من شفتيه المرتجفتين.
غزلت لكم غزلاً رقيقاً فلم أجد
لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي
|