Friday 26th december,200311411العددالجمعة 3 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أثر الأمن في النهضة الحضارية والنمو الاقتصادي أثر الأمن في النهضة الحضارية والنمو الاقتصادي
د. عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان/عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالرياض

تحدثت في مقال سابق عن شدة حاجة الناس الى الأمن، وانه ضرورة بشرية، ومطلب فطري لا تستقيم الحياة بدونه، ولا يستغني عنه فرد أو مجتمع. والحياة بلا امن حياة قاحلة مجدبة، شديدة قاسية، لا يمكن ان تقبل او تطاق.
فالأمن من اهم مقومات السعادة والاستقرار، واهم اسباب التقدم والتحضر والرقي. وهو مطلب تتفق على أهميته جميع الامم والشعوب، والافراد والمجتمعات، في كل زمان ومكان.
ومما يؤكد على اهمية الامن وضرورة الناس اليه، ذلك الترابط الوثيق بين النهضة الحضارية الشاملة وبين الشعور بالأمن، وهو امر تصدقه الشواهد التاريخية الماضية، والوقائع الكثيرة الماثلة، فانك حين تجيل نظرك في الواقع المعاصر، وتقلب صفحات التاريخ الغابر، تجد شواهد كثيرة، تعلن بكل وضوح: الا حضارة بلا امن واستقرار.. فالأفكار والمبادىء الصحيحة لا تنطلق وتؤثر الا في ظل الامن.
والعقول لا تبدع وتبتكر الا في ظل الامن.
والتجارة لا تنمو وتزدهر الا في ظل الامن.
والتعليم لا يقوى وينتشر الا في ظل الامن.
وكل أسباب التقدم والرقي لا تتوفر وتثمر الا في ظل الامن.
فإذا فقد الامن، فإن المؤمنين قد يضطرون الى اخفاء عقائدهم ومبادئهم الصحيحة، فضلا عن ان يقوموا بأداء شعائر دينهم الظاهرة.
وإذا استطاعوا ذلك، فإنهم قد لا يتمكنون من القيام بواجب الدعوة، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل تقيد حرياتهم، وتصادر افكارهم، وتكمم افواههم، وتحصى عليهم انفاسهم، كما هو مشاهد اليوم في بعض الدول والمجتمعات.
وإذا فقد الامن خملت العقول وتحجرت، لأنها والحالة هذه مشغولة بتأمين نفسها، ودفع الظلم والعدوان عنها، فان الخائف على الشيء محصور الهم به، مشغول الفكر عن غيره، فصار كالمريض الذي هو بمرضه متشاغل، وعما سواه غافل.
واذا فقد الامن تعطلت المدارس وحلق الذكر، وبارت سوق العلم والعلماء.
واذا فقد الامن كسدت التجارة، وتدهور النشاط الاقتصادي، وقعد الناس عن التكسب، وتنمية الاموال واستثمارها، بل لربما تأثر بعضهم بهذا الجو الآسن، فأخذوا يشاركون في الافساد والعدوان، والسلب والنهب، فبدلا من الاشتغال بالتجارة، وتنمية الاموال بالطرق المباحة، تحولوا الى الاجرام، وانتهاك الحرمات، وأكل اموال الناس بالباطل.
وقد جاء في كتاب «أدب الدنيا والدين» وشرحه «منهاج اليقين» : ان ما تصلح به الدنيا حتى تصير احوالها منتظمة، وامورها ملتئمة، ستة اشياء، ومنها امن عام، تطمئن اليه النفوس، وتنتشر فيه الهمم، فتكثر المواد والتجارات ويؤدي الى الخصب والمواساة، والتواصل بالمال، ويسكن اليه البريء، ويأنس به الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، حتى يستعمل فكره في المهمات، ودراهمه في المعاملات، وقد قال بعض الحكماء: «الامن اهنأ عيش، والعدل اقوى جيش»، وقال احدهم: «الامن يذهب وحشة الوحدة، كما ان الخوف يذهب انس الجماعة». وقال آخر: «الأمن مع الفقر، خير من الخوف مع الغنى». لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن اسباب المواد التي بها قوام اودهم، وانتظام جملتهم.
وليس الأمر مقتصرا على ما ذكر، فان الامن اذا فقد، عم القلق، وانتشر الخوف، واضطربت النفوس، وهذا يؤدي بدوره الى آثار خطيرة على الارواح والعقول، فضلا عن الامراض العصبية، والاضطرابات النفسية.
جاء في كتاب «دع القلق وابدأ الحياة»: «تدل الاحصائيات في امريكا على انه في كل خمس وثلاثين دقيقة، يقع حادث انتحار. وفي كل مائة وعشرين ثانية، يصاب شخص بالجنون.
ومعظم حوادث الانتحار، وكثير من حالات الجنون على الأرجح، يمكن ان يقطع دابرها اذا أصاب هؤلاء الناس شئيا من الامان والاطمئنان، وسكينة النفس التي يجلبها الدين، وتجلبها الصلاة.
وجاء فيه: «لقد عشت في نيويورك اكثر من سبع وثلاثين سنة، فلم يحدث ان طرق بابي احد ليحذرني من مرض يدعى القلق.
هذا المرض الذي سبب في خلال الاعوام السبعة والثلاثين الماضية من الخسائر في الانفس أكثر مما سببه الجدري بعشرة آلاف ضعف.
نعم، لم يطرق بابي احد ليحذرني من أن شخصا من كل عشرة أشخاص من سكان امريكا، معرض للاصابة بانهيار عصبي، مرجعه في معظم الاحيان الى القلق «الذي يؤدي الى عسر الهضم العصبي، وقرحة المعدة، واضطرابات القلب، والارق، والصداع، وبعض أنواع الشلل».
ثم استطرد قائلا: «لقد أثبتت الاحصائيات ان القلق هو القاتل رقم «1» في امريكا. ففي خلال سني الحرب العالمية سني الحرب العالمية الاخيرة، قتل من ابنائها نحو ثلث مليون مقاتل. وفي خلال هذه الفترة نفسها، قضى داء القلب على مليوني نسمة. ومن هؤلاء مليون نسمة كان مرضهم ناشئا عن القلق وتوتر الاعصاب.
وإليك حقيقة مدهشة قد يصعب عليك تصديقها: ان عدد الامريكيين الذين ينتحرون، يفوق عدد الذين يموتون بالأمراض على اختلافها فلماذا؟ الجواب في معظم الاحوال هو: القلق.
والملاحظ في هذه الاحصاءات، انها قديمة، وقد زادت في العقود الاخيرة اضعافا مضاعفة، كما انها محصورة في امريكا، ولم يتعرض المؤلف لحجم هذه الامراض في بقية دول الغرب، وهي منتشرة فيها بنسب عالية، تتزايد باطراد، يوما بعد يوم.
كما انه لم يتعرض للخسائر الهائلة التي تنشأ عن الجرائم المختلفة من التعدي على النفوس والابدان، والتجني على العقول، والتسلط على الاعراض والحرمات، والتغلب على الاموال والممتلكات، الى غير ذلك.
أثر الأمن في النمو الاقتصادي:
أما أثر الامن في تحقيق النمو الاقتصادي، فأمر ظاهر للعيان، اذ بين الامن وبين النمو الاقتصادي ترابط وثيق، وتأثير تبادلي، وعلاقة مشتركة متشابكة، فكل منهما يؤثر في الآخر، ويتأثر به، ويبرز هذا الأثر من ثلاثة جوانب.
الجانب الأول: ان فقدان الامن على الاموال والانفس يوهن العزائم، ويضعف الهمم، ويقبض عن السعي والكسب، ويورث الكساد الاقتصادي، ويوقف حركة التجارة وتبادل المنافع، ويقعد التجار عن استثمار اموالهم وتنميتها، ويقلص فرص العمل وتحصيل الرزق.
قال ابن خلدون رحمه الله في مقدمته: «اعلم ان العدوان على الناس في اموالهم، ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من ان غايتها ومصيرها، انتهابها من ايديهم، واذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها، انقبضت ايديهم عن السعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء ونسبته، يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فاذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع ابواب المعاش، كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة، بدخوله من جميع أبوابها، وان كان الاعتداء يسيرا، كان الانقباض عن الكسب على نسبته.
والعمران ووفوره ونفاق اسواقه، انما هو بالاعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب، ذاهبين وجائين.
الجانب الثاني: ان انتشار الامن يؤدي الى تخفيض الانفاق المالي على الاجهزة الامنية، ومؤسسات مكافحة الجريمة بأنواعها، مما يوفر مزيدا من الامكانات والموارد التي توظف لاغراض التنمية ومشروعاتها، بدلا من ذهابها في سبل مكافحة الاجرام، وملاحقة المجرمين.
وتمثل مخصصات الانفاق، لمكافحة الجريمة في ميزانيات بعض الدول نسبة عالية من جملة الانفاق الحكومي، مما يشكل عبئا ثقيلا على الموارد المالية لهذه الدول، ويؤدي بالضرورة الى تخفيض حجم الاموال التي كان يمكن ان توجه الى مشروعات التنمية.
وتشير بعض التقارير الى ان الانفاق الحكومي المخصص لمكافحة الجريمة في الدول الافريقية مثلا بلغ في المتوسط 9% من جملة الانفاق الحكومي السنوي، وبلغ 8% في دول امريكا اللاتينية في المتوسط، وبلغ 7% في الدول الآسيوية في المتوسط.
انظر: اثر انتشار الامن في دفع مسيرة الامة نحو التنمية الشاملة لمواجهة التحديات، بحث للدكتور: عاطف عبد الفتاح عجوة، ضمن كتاب «الامن العام واثره في بناء الحضارة». ص: 112 - 113.
وحتى يتبين لنا حجم الخسارة الناجمة عن الانفاق في مجال مكافحة الجريمة، اسوق هذه التقارير عن الولايات المتحدة الامريكية.
جاء في كتاب «الأمن الاجتماعي في الاسلام» ص: 35، نقلا عن تقرير لمكتب التحقيقات الفيدرالي في امريكا: «ان امريكا تنفق سنويا «26» الف مليون لمكافحة الجريمة».
وجاء في بحث بعنوان «اقتصاديات الجريمة والسلوك الاجرامي» للدكتور محمود حسن فؤاد، استاذ الاقتصاد بجامعة ولاية ايداهو» في الولايات المتحدة الامريكية. وقد طبع البحث ضمن كتاب «النظريات الحديثة في تفسير السلوك الاجرامي» ابحاث الندوة العلمية السادسة في المركز العربي للدراسات الامنية والتدريب، ص: 146 ان خسارة امريكا في مجال مكافحة الجريمة ومعالجة آثارها، بلغت عام 1974م حوالي :«6 ،88» بليون دولار. منها «8 ،68» بليون دولار نفقة الاعمال الاجرامية. وعشرون بليون دولار نفقة تطبيق القانون «البوليس، المحاكم، السجون».
يقول الباحث: واذا اخذنا معدل ارتفاع الاسعار في الحسبان في الفترة بين 1974 - 1982م، لبلغ هذا الرقم حوالي «158» بليون دولار، عام 1982م أ.هـ.
واذا كان هذا هو ما تنفقه لمكافحة الجريمة، في عام 1982م، فكم يا ترى بلغ انفاقها لمكافحتها في عام 2003م؟ وجاء في احصائية صادرة عن الامم المتحدة، وعن الحكومة الامريكية عام 1994م: ان ما تنفقه امريكا لمكافحة الجريمة ومعالجة أسبابها وآثارها بلغ في هذا العام: «425» مليار دولار.
انظر: مجلة الاصلاح، 292، لعام 1415هـ، ص: 45.
وفي هذا العام ايضا صدر قانون جديد باعتماد مبلغ «5 ،33» بليون دولار تقريباً، خصصت نسبة 45% منها للصرف على قوات حفظ الامن، بما في ذلك تعيين مائة الف جندي جديد. ونسبة 33% لانشاء سجون جديدة. ونسبة 22% لبرامج الوقاية الجنائية.
انظر: مجلة الاصلاح، عدد: 305، لعام 1415هـ، ص: 20، ومجلة الاسرة، عدد : 16، لعام 1415هـ، ص: 15.
هذا فضلا عن الخسائر الكبيرة التي تحل بالأفراد بسبب الجرائم الواقعة على ممتلكاتهم، من انواع النهب والسرقة والخيانة، وحرق المتاجر، وتعطيل المصانع، واعاقة الاعمال والمصالح العامة والخاصة.
وذلك كله بالاضافة الى الخسائر الكبيرة في الاوراح والعقول من جراء تلك الجرائم.
الجانب الثالث: ان انتشار الامن، وانحسار الجريمة، يوفر طاقات بشرية كثيرة، تساهم في الانتاج والنمو الاقتصادي، بعد ان كانت تحترف الاجرام، والعدوان على اموال الآخرين، وانتهاك حرماتهم.
كما تتوفر طاقات اخرى كانت موظفة لمكافحة الجريمة، والحد من انتشارها.
ومن هنا ندرك اهمية الامن، وان الناس افرادا وجماعات بأمس الحاجة اليه، بل ان حاجتهم اليه تبلغ مبلغ الضرورات، التي لا يمكن ان تستقيم الحياة وتنتظم احوالها بدونها، فالامن راحة في النفس، واستقرار في الحياة والمعاش، وشعور بالسعادة يملأ قلوب الناس.
وهو حالة يشعرون فيها بالطمأنينة والسكينة، ويثقون فيها بأن مصالحهم محمية محفوظة، وان كل ما يخافون عليه، ويحرصون على حمايته، محروس مصان، فينطلقون في هذا الجو الآمن المطمئن الى تحقيق مصالحهم الدينية والدنيوية، ويسعون في عمارة الارض وتسخيرها، واستكشاف اسرارها ومكنوناتها، ويضربون لطلب الرزق في مناكبها وأطرافها.

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved