Friday 26th december,200311411العددالجمعة 3 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

عواطف قومية عواطف قومية
د. موسى بن عيسى العويس/الإدارة العامة للتربية والتعليم بمنطقة الرياض

رحم الله الشاعر العراقي «معروف الرصافي»، الذي لم يكتب له أن يعيش طرفاً من الأحداث والمآسي الأخيرة في بلده «دار السلام»، كما تسمى عاصمتها، فلم يشهد وقائع السقوط. سقوط الوطن الحر. سقوط الأمة العظيمة. سقوط العروبة العريقة. سقوط الرموز العتيدة. سقوط القيم الأصيلة، بل وافاه الأجل وهو السعيد قبل ذلك بنصف قرن، لكنه عاصر إرهاصات السقوط وأماراته، وتنبأ حين غفل غيره بمآل وطنه وأمته، ومصيرها البائس إن هي سارت على وتيرتها في تمجيد الظلم ودولته، وصانعيه والصابرين عليه والمحابين له، وكان من نتيجة مجاهرته بالحق والصدع به في المحافل، أن جفاه البلاط الملكي حينذاك وأقصاه، ليعيش في المنفى طريداً شريدا، لأنه كان صريحاً في آرائه ونقده، جريئاً في فكره وطرحه، صلباً فيما يبتغيه للعراق من آمال وطنية، ومطالب اجتماعية. تجسدت هذه النزعة في إحدى قصائده التي يقول فيها:


برئت إلى الأحرار من شر أمة
أسيرة حكامٍ ثقال قيودها
سقى الله أرضاً أمحلت من أمانها
وقد كان روّ اد الأماني ترودها
جرى الجور منها في بلاد وسيعةٍ
فضاقت على الأحرار ذرعاً حدودها
عجبت لقومٍ يخضعون لدولة
يسومهم بالموبقات عميدها
وأعجب من ذا أنهم يرهبونها
وأموالهم منها، ومنهم جنودها
إذا وليت أمر البلاد طغاتها
وساد على القوم السراة مسودها
وأصبح حرّ النفس في كل وجهة
يرد مهاناً عن سبيل يريدها
وصارت لئام الناس تعلو كرامها
وعاب لبيداً في النشيد بليدها
فما أنت إلا أيها الموت نعمةٌ
يعزّ على أهل الحفاظ جحودها

وحسب المنية أن تكون أمنية عنده، ليسلم من فضول هذه الحياة الذليلة التي يعيشها لداته من ذوي الأنفة والإباء، والغيرة والكرامة في العراق.
صورٌ متلاحقة من الأحداث، في كل زمان ومكان، تختلف في أشكالها، وتتحد في تعبيرها وأهدافها، ويختلط فيها السرور بالحزن.
سقوط بغداد، وتفرق الرموز البعثية الحاكمة، بين قتيل، وأسير، وشريد صورٌ لم تكن هي الأولى من نوعها في تاريخ الزعامات، وقد لا تكون الأخيرة من فصول مسرحية سقوط الأمجاد، إذ لا تزال الأمة العربية في نزال مع أعدائها من الداخل والخارج، وستظل حتى قيام الساعة، تدول دولة، وتبرز غيرها. تهلك أمة، ويبعث أخرى. يحكم الله ما يشاء ويختار. الآن، وأمام الأعداء، ودفاعاً عن الجنس، والعرق، والوطن، والهوية، والقيم، والكرامة، لايؤبه وفي سياق العواطف من يكون الرمز. الأسير، أو القتيل، سواءً أكان خيِّراً أم شريراً، عادلاً أم جائراً، رئيساً ملكياً أم جمهوريا، قائداً سياسياً أم زعيماً دينيا، زعيماً حزبياً أم إماماً مذهبيا، مصلحاً اجتماعياً أم مناضلاً وطنياً، حسبه كرمز، أن يمثل أمة أو وطناً، أو أن تتمثلا به، شاء الشعب أم أبى، رضي أم غضب، إذ ليس لتلك الصفات أي اعتبار لدى قوى التحالف، أو الاحتلال، أو الاستعمار، أو قوى الخير، أو الشر سمها ما شئت حسب ما تمليه عليك عواطفك، والحالة التي أنت عليها، والظروف التي تعيشها، والتوجه السياسي الذي يقودك، وتحكمك شريعته أو دستوره.
مع الأسف، فئة ليست بالقليلة من الشعوب المغلوبة على أمرها لم تعد تأبه بما تلتقطه عدسات الإعلام من صور الهزائم المنكرة، مهما كانت بشاعتها وفظاعتها، ومهما كان هدفها ورمزها، وربما عدّ هذا الأمر طبيعياً لأمة أو أجيال شربت معها المآسي وأكلت، ولم تعد تعرف من صور أمجادها الزاهية، إلا بما تحتفظ به كتب التاريخ، يبعث أحيانا للتباكي عليه، دون محاولة وعيه. ولا غرابة حينئذٍ أن ترى هذه الأمة تضحك مما يبكي، وتبكي مما يضحك، وعلى قدر الشعور يكون الألم، ومن يفقد الغيرة والحمية ينكر الغضب، ومن يوارب السفاحين يستهين بدماء قومه:


إذا خانك الأدنى الذي أنت صحبه
فلا عجباً، إن سالمتك الأباعدُ

الشعوب العربية والإسلامية هي إلى الإباء، وعزة النفس، واستصلاح الذات واستقلالها، والالتفاف مع قياداتها أحوج منها إلى المدافع، أو الأساطيل، أو الطائرات التي أحال ممتلكوها وتجارها الشعوب إلى خلايا إرهابية، وعصابات انتقامية، وعادوا بصورة أو أخرى إلى جلبها للمحاكمات، شعوباً وزعامات.
هذا الواقع صورة تحاكي تجارب مماثلة عاشتها بعض الأقطار العربية في القرن الماضي، ودفع بالكاتب «القروي»، ليقول: «التاريخ يشهد بأن لنا معشر العرب من فيض العاطفة الاجتماعية، وحرارة الروح الإنسانية وسطوعها ما ليس لسائر الأمم بعضه.. لقد وزّعنا حبنا على أهل الدنيا حتى لم يبق منه فضلة لذواتنا. ولقد بلغنا من إنكار النفس والتطوع بخدمة الغرباء مبلغا جاوز بنا رياض فضيلة الكرم، وشرف التضحية إلى سباخ التمرغ والذل والدناءة.
إننا أسلس المطايا قياداً، وألينها شكيمة، وأحناها ظهراً، وأنعمها مركبا، بل نحن صيدٌ شهيٌ سائغٌ ليس أقرب منه منالاً، ولا أسهل منه مأخذاً، فبدلاً من أن يتكلف القناصون مشقة نصب الفخاخ لنا، أو مطاردتنا، باتوا وجهادهم محصورٌ في كيف يتقون تهافتنا عليهم، ووقوعنا تحت أقدامهم...».
لقد وصل حدّ الإذلال إلى أن أصبح الفرد في بعض الشعوب المنكوبة لا يستطيع أن يتفوَّه بكلمة «عدو»، وإن جازف بذلك، فهل بإمكانه تحديد بلده، أو هويته، أو وصفه. كلا. ترى، هل يسري هذا الشعور في أقطار عربية أخرى قيد المحاسبة ممن لا يزال فيها رمق مقاومة، أو يتداركها الله بعزته؟

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved