تتماثل المجتمعات الإنسانية قاطبة في ردود أفعالها نحو المستجدات التي تطرأ على الحياة البشرية، وبذلك قد يعجب أبناء المجتمعات النامية أن المجتمعات المتطورة مادياً كانت تعتقد السحر والشعوذة في طاقة الآلة الطابعة عند ظهورها في القرن الخامس عشر، فلم تكن تروق للمجتمع الأوروبي - حينها - فكرة أن الآلة يمكنها أن تنتج حروفاً مرئية مقروءة، وساد لديها أن من اعتقد ذلك فلا بد أن به مس من جنون، أو مسحة من خبل، وقد توالت ردود الفعل تلك من لدن كيانات مجتمعية كثيرة، كلما ظهرت تقنية جديدة تخرق عوائد الناس بمضاعفة غير محدودة لحاستي السمع والبصر، وربما بقيت عناصر في المجتمعات الأوروبية والأمريكية على هذه الحال حتى قبيل اختراع التلفزيون في بداية القرن العشرين، الأمر الذي بدأت معه تلك المجتمعات تؤمن - بشكل قطعي - انه ربما أمكن - علمياً - فعل شيء ما من هذا القبيل، ولأن المجتمع الإنساني مجتمع متشابه في هذا المجال، بدت مشاعر وأحاسيس وآراء الناس في المجتمعات النامية ترتد بالشيء نفسه كلما لاحت في الأفق تقنية جديدة، مع فارق في الزمن تتأخر معه المجتمعات النامية عقوداً من التاريخ كنتيجة طبيعية لتأخر وصول التقنية، من جانب وسرعة التفاعل معها واستيعابها من جانب آخر، وظن الناس أن تقنية التلفزيون خاتمة تقنيات الاتصال بالصوت والصورة، لكن ما أسرع أن أشرقت شمس البث التلفزيون الفضائي لتغرق المجتمعات قاطبة في صراع وحوار طويلين حول هذه التقنية، لكنها - هذه المرة - صراعات من نوع آخر تجاوزت التقنية ذاتها لتنعكس على مخرجاتها الفكرية والسلوكية، تبعاً لما أتاحته التقنية من اختراق لكل حدود تقليدية عرفها البشر، ونقل مباشر للملعومات والأفكار من المصادر إلى الأفراد، ولأن الأمر متعلق بالهويات الثقافية بدأت المجتمعات النامية تتربع على عرش الصراعات، انطلاقاً من خوفها أن تكون ضحية لثقافة عالمية، وبدأ الحديث سراً وعلانية عن أخطار «العولمة» و«الأمركة» و«الاستعمار الجديد» و«انحلال القيم الإعلامية» و«ذوبان الهويات الذاتية»، ومن هنا دخل مجتمعنا السعودي باقتدار في حلبة الصراعات الفكرية والمعارضة لمعظم تلك القنوات الفضائية، التي لا يراها الأكثرية إلا تبث معاول هدم وتدمير لثقافة متجذرة الأصل فيها أن تسود!! وفي ظل الغياب عن مواجهة المهنة بمهنية، وفي زحمة التباكي على واقع الاتصال الدولي الهجومي علينا وعلى ثوابتنا!!، ظهرت بيننا أعظم تقنيات الاتصال المعاصر وذروة سنامه «الانترنت» لندخل من جديد، في صراع جديد، حول مشروعية أن نهاجم وتقوض أركان ثقافتنا من لدن أقطاب الشبكة العنكبوتية وعمالقتها، وأيضاً من قبل المرتزقة فيها من كل جنس ولون، لكننا هذه المرة، مثلنا في كل مرة، نولول ونصرخ ونتخيل أن العالم سيرحمنا من أن يسودنا، وأن كياناته السياسية والفكرية ستعزف عن اختراقنا استرضاءً لنا، لأننا لا نقبل هذا التطور في عملية الاتصال، فهو مدعاة لذوباننا في ثقافة عالمية لا تليق بنا كمجتمع محافظ!! وأعتقد أننا لا نزال نُخترق من هذا الشعور الذي يكبح إرادة كيانات مجتمعية كثيرة قادرة على الفعل الاتصالي المميز وفق ثوابتنا وقيمنا ومبادئنا، ومؤهلة لقلب كثير من المعادلات الدولية لصالحنا، ولكن فقط عندما نكون أقدر على الاتصال والتفاعل والمشاركة، وأكثر جرأة على قبول الآخرين والتسامح معهم. إن الارهاب الفكري وسائل وأدوات فاعلة، ولن يُرد إلا من خلال تلك الوسائل والأساليب ذاتها اتقاناً لعلمها ولفّنها، وفسحاً للمجال لاستيعابها وتوظيفها باقتدار.
* عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام
|