لقد اتيح لي عن طريق التواصل الإلكتروني مع بعض رائدات والعاملات ومتطوعات العمل النسوي بالعالم والعالم العربي أن أطلع على بعض تجارب ذلك العمل. وقد شدني منه وحرك شجوني ما يتعلق بطبيعة ذلك العمل وآفاقه على المستوى العربي من خلال بعض بقاعه العربية المتناثرة على المواقع الشبكية المتعددة التي صممت للتعريف بهذا النوع من العمل. فرأيت في بعض تلك التجارب من الجدية والتفاني والتجديد في أساليب العمل مع ربطه بالأهداف الإستراتيجية لطموح التنمية وبالأهداف اليومية المرتبطة بالاستجابة لحاجات النساء وحل الإشكاليات الأسرية والمجتمعية التي قد تواجهن في مواقعهن المختلفة على خريطة العالم العربي ما يستحق التوقف عنده وإشراك القراء والقارئات في الاطلاع عليه ومناقشته.
وقبل أن أبدأ الخوض في أشكال وتفاصيل بعض تلك التجارب يهمني للحد من أي التباس أو تلبيس للعبارة أكثر مما تحتمل أن أوضح بما يشبه التعريف ما المقصود بمقولة «العمل النسوي». وهذا التوضيح ضروري لسببين: السبب الأول وهو سبب موضوعي تأتي أهميته من أن العمل النسوي والجهاز المفاهيمي الذي يشكل العناصر الأساسية لوجوده كمفهوم المجتمع المدني والتنظيمات الأهلية وتمكين المرأة والشراكة الاجتماعية هي مفاهيم لم تتجذر بعد في الفكر والسلوك الاجتماعي في العديد من المجتمعات النامية. أما السبب الآخر فإنه من باب التقية خصوصا وقد أصبح الحديث عن هذا الموضوع بل وأي موضوع يخص النساء مدعاة لدى البعض لإثارة الغبار والتشويش إن لم نقل التشويه للموضوع بدعاوى غير بريئة في حق من يتجرأ على طرحه، وكذلك في حق مفهوم العمل النسوي نفسه وجدواه ومدى الحاجة إليه مع ربطه بأفكار مسبقة تصادر إمكانية التفكير به بصوت عال بعيدا عن التهم الجزاف، بالقول بأنه مفهوم غربي أو بأنه مشروع سياسي مستتر إلى آخر سلسلة المصادرات التي تكاد تجعل الحديث عن النساء والقضايا التي تعنى بهن تهمة يجري التهرب من وصمتها كما يجري تجنب شرف ادعائها وربما لهذا السبب أصبحنا مع الأسف لا نجد تناولا لهذا الموضوع وعلى الأخص إذا كانت الكاتبة امرأة دون مقدمات اعتذارية أو في أحسن الأحوال محاولات توضيحية كما أفعل الآن.
وعودة إلى صلب القضية بعيدا عن حواشيه الزائدة فإن المقصود بالعمل النسوي الذي أتناول بعض عيناته الإلكترونية بالنقاش هو ذلك العمل الأهلي أو الحكومي، وإن كانت أغلب تجاربه الحديثة الناجحة تجارب أهلية الذي تضطلع بالعمل عليه وتصميم برامجه وتنفيذها نساء- ولا يكون موجهاً لخدمة النساء في التجمعات المدنية المركزية وحسب كالعواصم والمدن الرئيسة بل في المدن الثانوية والأطراف البعيدة كمناطق التجمعات السكانية الريفية والبدوية مثل القرى وهجر الاستقرار الجديدة. ويكون شرط إعداد الخدمات وتوفيرها أن تنبع من حاجات النساء في تلك المناطق ومن تصورهن لتلك الحاجات وليس بناءً على تصور جاهز يقدمه نساء المراكز لنساء الأطراف. كما يكون شرط العمل النسوي هذا التقريب بين نساء الوطن الواحد والمنطقة الواحدة من منطلق الشراكة والتعلم المتبادل بين نساء المراكز الحضرية والمواقع النائية لا من منطلق أن النساء المتعلمات تعليما عاليا أو متخصصات هن وحدهن القادرات على الفهم والعمل وعلى تقديم النصائح والإرشادات. وفي ذلك يكون العمل النسوي بالإقرار بأن لدى النساء كل في موقعها مما تساهم به في العمل النسوي ولديها من الخبرات البيئية بعالمها النسائي والاجتماعي ما يمكن ان يتعلم منه حتى النساء ذوات الاختصاص العلمي. ولا يتأسس هذا العمل النسوي بطبيعة الحال على هدف الفصل بين عالم الرجال وعالم النساء أو تعميق هذا الفصل. فليس المقصود بالعمل النسوي إيجاد أو إحياء تجربة جنوب أفريقيا في الفصل العنصري لا أعادها الله باستبدال الفصل العنصري «بالفصل» «النوعي» فيصير هناك لا سمح الله ما يصطلح عليه باللغة الإنجليزية ب(Gender Apartheid) كما أن المراد منه هو تماما على العكس مما ينتج عن ذلك الفصل أو ما قد نتج عنه فعلا في بعض المجتمعات من اتساع الهوة بين جنس الرجال وجنس النساء سواء من حيث القيمة الإنسانية أو من حيث عدم العدالة في تحديد حصة الفرد من خدمات التعليم والصحة وسواها من الخدمات حيث يتحدد نصيب الفرد من ذلك بناءً على هوية النوع (امرأة أو رجل) لا على اساس الهوية الوطنية والمساواة في واجبات المواطنة وحقوقها بين النساء والرجال. فالمراد بالعمل النسوي هو أن تكون هناك مؤسسات عمل أهلية وبمساهمة أو إشراف رسمي لو شاءت بعض الحكومات توسع من مشاركة المجتمع المدني في تحديد الإشكاليات وإيجاد الحلول التي تمكن المرأة من أن تكون «مواطنة صالحة» بالمعنى الإيجابي للمواطنة الصالحة وليس بالمعنى الوعظي أو الإنشائي في الإكليشيهات الإعلامية. بمعنى أن تصبح المرأة جزءاً فعالاً في التركيبة الاجتماعية سواء في مجال العمل العام أو في المجال البيتي وداخل المحيط الأسري على أن يقر بالجانب الإنتاجي لعملها البيتي لو رأت المرأة أن تقصر جهدها عليه أو لو أن ظروفها اقتضته. وعلى ألا يكون ذلك ذريعة لإقصائها عن المشاركة الاجتماعية في الشأن العام وبما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام. وإذا كان قد اكتنف اليوم وأحاط بمصطلح «تمكين المرأة» (Women,s empowerment) أو ما يُعرف في أدبيات التنظير النسوي الغربي بمصطلح الكثير من الغموض كما قد لحقت الشكوك بأبعاده السياسية فإن العمل النسوي حسب التعريف الذي ذكرناه آنفا يسهم في إزالة ذلك الغموض ليتضح أن ليس الهدف من تمكين المرأة «مزاحمة المرأة للرجل» مزاحمة تنافسية بل إن الهدف منه هو أن تكون المرأة نفسها شريكة لمجتمعها ولبنات جنسها وبالعمل معهن في تحديد حاجاتها وفي إيجاد السبل المشروعة والشريفة لقضاء تلك الحاجات الحلال. وربما يكون في طرح بعض التجارب العربية والتي كانت هي مفتاح هذا المقال ما يساعدني على توضيح هذا المفهوم بأمثلة عملية حية بدون التوغل في التعريف النظري في مفاهيم ليس مكان تشريحها الصحف، كما يساعدني على أن أملك شجاعة التساؤل عن سبب غياب العمل النسوي بغير مفهومه «الخيري» بمجتمعنا وعن الكيفيات التي يمكن ان توطنه بها و«تسعوده» ليكون النساء في خدمة النساء أي في خدمة أنفسهن والمجتمع الذي يتشرفن بالانتماء إليه.
ومن هذه الأمثلة هناك في اليمن منتدى الشقائق وهو ملتقى للنساء لخدمة النساء بما يمكنهن من المشاركة الفعالة في الحياة الاجتماعية العامة والأسرية وبما يجعلهن عاملات في وضع اللوائح والأنظمة التي تقنن الحقوق وتدافع عنها وتقر بالواجبات والمسؤولية فيها.
وهناك في البحرين والكويت وعدد آخر من دول الخليج نقاط تجمع نسوية مشابهة تهدف لأن توعي المرأة وتمكنها من أداء الواجب الأسري والوطني دون ان يقع النساء فريسة التعارض المفتعل بين الدورين. كما وفي العراق اليوم رغم ظرفها الدامي جمعية الأمل لصداقة النساء التي تمتد من الشمال إلى بغداد في محاولة لرد الاعتبار للمرأة العراقية سواء مما هدرته الديكتاتورية السابقة أو مما يهدده ويهدره الاحتلال الأمريكي الحالي. وفي الريف المصري والسوداني كما في عُمان وعمان محاولات مماثلة لردم الهوة التاريخية التي فصلت بين النساء وبين الحق الذي أعطاه لهن الإسلام في العلم والعمل واختيار الشريك والمشورة والأهلية والتصرف بالأموال. فمن تلك النقاط القائمة للعمل على تطوير إمكانيات المرأة بعمان معهد التضامن لتدريب النساء.
أما في فلسطين فإن موقع طاقم شئون النساء يستحق وقفة أكثر تفصيلا للكيفية التي يصوغ فيها عمل النساء مع النساء أرقى نقائض الاحتلال وتخريب نشوته في ادعاء واحة الديموقراطية وذلك حين يجترح النساء فعل المشاركة في تشكيل مستقبل بديل. ولقد تحدت النساء العاملات في ذلك الموقع على الأرض مع عدد آخر من نقاط الالتقاء النسوي في تلك القرى الفلسطينية مجنزرات العدو المحتل ودباباته والعزلة اليومية التي يفرضها وجوده على تنفس السكان بإقامة مراكز نسوية موصلة بشبكة الإنترنت مع تعليم جيل الشابات والكبيرات مهارات الاتصال والاستخدامات الأخرى للكمبيوتر لكسر الجدار الفاصل الذي تقيمه إسرائيل بأفق جديد تحيكه النساء من أحلام تقاسم المسئولية فيما يشكل شجونا وهواجس عامة وخاصة مشتركة بين النساء والرجال معا.
|