خلق الله الناس لعبادته ولما هيأهم لأدائه وعمله.. وبذلك تستقيم الحياة ويسعد البشر.. لكن نقص المعرفة أو ضعف القدرة أو انحراف الرؤية لدى بعض البشر يدفع إلى ارتكاب الأخطاء.. وإذا كان أصح الأعمال وأفضلها هو وضع الرجل المناسب في المكان المناسب فقد تتحول الأمور إلى كارثة.. حينما يوضع الرجل الخطأ في المكان الخطأ.. فتكون كافة أعماله وقراراته خطأ تلو خطأ.
كيف لنا كمجتمع يطمح للنمو والصعود والوصول إلى الموقع الذي نرتضيه لأنفسنا أن لا نقع في ذلك الخطأ الكارثي؟.. ومحاولة تحديد الرجل المناسب للمكان المناسب منذ البداية؟
العالم المتقدم ابتكر وسائل قياس يمكنها تحديد كثير من الخصائص الشخصية والذهنية والمهنية للفرد.. والتي على ضوئها يمكن تحديد المواصفات المطلوبة في الشخص.. حتى يكون مناسباً لذلك المكان.
اختبارات القياس حدّت كثيراً من احتمالية اقتراف تلك الأخطاء.. فمن خلالها يمكن تحديد - وإلى حد بعيد - هل الشخص مكتبي أم ميداني؟.. اجتماعي أم انطوائي؟.. ذهني أم عضلي؟.. تفصيلي أم إجمالي؟.. عالٍ أم متوسط الذكاء؟.. هل هو سليم أم مريض نفسياً؟ وغيره.
فالعقول أنواع، ولكل نوع حقل عمل يجيده.. فهناك العقل المبتكر، والعقل المخطط، والعقل المحلل، والعقل المنظر، والعقل المنظِّم (كسر الظاء).. والعقل الجامد.
وهذه العقول تتشكل حسب الصفات النفسية التي هي نتيجة بيئة نمو ذلك العقل، فتجد المبادر، والمتابع، والمنفِّذ، والميداني، والمكتبي، والمواجه، والمشاكس، والانطوائي والانفعالي... إلخ. كما أن تلك العقول تتأثر بالصفات الشخصية المكتسبة اجتماعياً وتربوياً، فتجد الفوضوي، والمنظَّم (بفتح الظاء)، والمستهتر، والملتزم.. إلخ.
من هذا المنطلق دعونا نتساءل: كيف يصبح المرء مديراً؟
في القطاع الحكومي.. أمام الموظف فرصتان ليصل إلى مرتبة مدير.. إما بالأقدمية أو بالمعرفة والعلاقة.. وفي القطاع الخاص.. فيمكن للمرء أن يكون مديراً بفرصتين أيضاً.. الأولى أن يكون هو صاحب المؤسسة، أو أن يكون ابن صاحب المؤسسة. وفي كلتا الحالتين طريقة الوصول الى مرتبة مدير عليها مآخذ هائلة، أهمها عدم الكفاءة في حالات.. أو عدم مناسبة طبيعة الابن والموظف القديم لطبيعة العمل.
أن يصل بالأقدمية.. فهذا قد يكون مؤشراً على السكون وقتل الزمن.. وهذه ليست من خصائص المدير.. ومنها أن يكون مبادراً ديناميكياً متفاعلاً.. وأن تكون مديراً لكونك صاحب العمل أو ابنه.. فهذه أيضاً قد لا تكون صحيحة؛ فالمستثمر غير المدير.. وهذا ينطبق تماماً على ابن المستثمر.. ولعل الإحصاءات التي تشير إلى أن أغلب المؤسسات التجارية الفردية تنتهي بانتهاء أصحابها.. دليل يؤكد على أنه ليس بالضرورة أن «ابن الوز عوَّام».
أحياناً يدخل عنصر ثالث في بعض المهن كما في الطب والهندسة والصناعة.. يتيح للطبيب أو المهندس أن يكون مديراً.. وهي أن يحقق نجاحاً في مجال تخصصه فيكرم ويرفع ليكون مديراً.. وبذلك يحرم من مزاولة مهنته، التي حقق من خلالها نجاحه.. ويشغل في عمل أو أعمال ليست هي مجاله التخصصي.. نعم قد ينجح ويتفوق.. لكن لماذا ترك النجاح الذي هو في اليد والسعي إلى نجاح منتظر؟!
فالدكتور عبدالله الربيعة صار رمزاً وطنياً عالمياً في الطب.. هل سيكون رمزاً وطنياً عالمياً في إدارة المستشفيات بعد أن صار مديراً لمدينة الملك عبدالعزيز الطبية.. وقبله الدكتور كتاب العتيبي.. هل هناك دراسة تبحث نتيجة تعيينه مديراً للمستشفى العسكري.. وهل ربح المستشفى، أم خسر الطب الوطني طبيباً بارزاً في تخصصه؟
والأمثلة الأخرى كثيرة.. لكني أريد أن أختم بهذه القصة التي توضح، وفي أجلى صورة، كيف أن الله سبحانه وتعالى يهيئ المرء لما خلق له.
أتيح لي زيارة مؤسسة حكومية.. وكان لي اجتماع مع مدير الشؤون المالية والإدارية في تلك المؤسسة الحكومية الكبيرة، وعند دخولي مكتب المدير رأيت شاشتين على طاولته، وخطر في بالي أنهما شاشتان لحاسبين.. فالشاشة الأولى خاصة بأعمال الشؤون الإدارية والأخرى للمالية.. لكن وبعد الجلوس على طاولة الاجتماعات المحاذية لطاولة مكتب المدير اكتشفت أن الشاشة الأولى لمراقبة مواقف السيارات.. أما الشاشة الثانية فقد كانت لمراقبة مدخل مبنى المؤسسة.
من الواضح أن هذا الرجل هيَّأه الله تعالى ليعمل مدير أمن.. وليس مدير شؤون مالية وإدارية.
|