Tuesday 23rd december,2003 11408العدد الثلاثاء 29 ,شوال 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

بين العقل والهوى بين العقل والهوى
د.موسى بن عيسى العويس /الإدارة العامة للتربية والتعليم بمنطقة الرياض

يبدو أن الشاعر العربي يدرك تمام الإدراك حدود مدارك العقل ومنازع الهوى إذا شطّ به التفكير وشتته، لكنه لايستغني عن إعماله، ولذا كان خلاصة ما توصل إليه متمثلاً في قوله: حاولت ترويض عقلي فاندفعت به في مدحض زلق بالعبقريات فخذ بكفي ولا تعجبك فلسفتي وعدها لي من بعض الحماقات. لهذا أقول في سياق الأحداث التي تعصف بنا، والمؤامرات التي تحاك ضدنا إن العواطف السامية تنشئ دولة المجتمع، والعقول النيرة ترسي دعائمها وتثبتها أما الأهواء العفنة، والأفكار المأفونة المنحرفة فتحيل بناءها ركاماً، وتجعل من قواعدها حطاما، مهما بدت متماسكة في فترة من فتراتها. ولا فرق في نظري بين اجتهاد مستنبت، وإن زكت تربته زمناً، وبين دخيل أو هجين مستورد مهما كان ثوبه زاهيا.
* وبون شاسع بين عقل الفيلسوف الذي يبني دولة في الهواء ويجد من الدهماء آذاناً صاغية، وعقل القصصي الذي يختط رسوم دولته فوق الماء ويجد من الخياليين عقولاً فارغة، وعقل الطاغية الذي يؤسس دولته فوق مستودع البارود ويجد من بطانته ذئابا جائعة، وصقوراً جارحة، وعقل المؤمن الصادق في إيمانه الذي يقيم منارة لدولته أصلها ثابت وفرعها في السماء، لا تمتد إلى أصلها أيدي العابثين، ولا يتطاول على فرعها فلول المرجفين، عقل لا يمكن ان يستنبت إلا في وجدان إنسان مسلم، سليم القلب، نظيف اليد، صحيح العقيدة، مستقيم الأخلاق، يمتلك ألمعية في الذهن، ومرونة في العمل، وحرارة في الروح، ونقاوة في الوجدان، تذوب ذاتيته في مصلحة أمته، وفرديته في مصلحة جماعته.
* عبارات بمنتهى الدقة في لفظها، وفي غاية السمو بمعناها، وفي قمة الجمال بجرسها وموسيقاها، تستلهمها من تجربة (أحمد السباعي) في كتابه (هكذا علمتني الحياة)، والتي وإن جاءت غير مرتبة ولا مبوبة، يختلط بعضها ببعض، إلا أنها تقدم للإنسان الباحث عن الحقيقة متى شاءها محض النصح والموعظة، ليقيم بها الإنسان حياته وحياة الآخرين من حوله، كي لا تتعثر بهم، وخير النصح كما يقولون ما أعطته الحياة نفسها، وأبلغ الموعظة ما اتصل بتجارب الحياة ذاتها. والناس وإن اختلفت مشاربهم وتنوعت، وتباينت عقولهم وطباعهم وتضاربت، فإنهم يلتقون على كثير من حقائق الحياة، ويجتمعون على كثير من الرغبات والحاجات وهي عناصر لا يمكن تحققها دون حضور العقل الناضج الذي ينقاد للمبادئ لا للأشخاص، وللحقائق لا للأشكال، وللمسميات لا للأسماء.
* وحينما نحجم العقل ومعطياته الفكرية، بوصفها محكاة جديرة بالثقة، ويمتلكنا الهوى وينزع بنا، فلا غرابة حينئذ شيوع روح التحزب والتكتل، والاستبداد والاستعداد، والوقوع في عمليات الاستقطاب والاستحواذ، والافتتان ببعض القيادات أو المرجعيات الدينية وإن حادت عن الجادة، وتنكبت عن الصراط، ولا غرابة حينئذ ان يصل الإنسان انقياداً لهواه إلى درجة ذوبان الشخصية، وفقدان الهوية، وضياع النفس والعقل في الانقياد الأعمى للآخرين، والمغالاة في الثقة بهم والاستسلام لهم. ولا غرابة كذلك إن وقع الإنسان في الإرهاب الفكري الذي يلزم الآخرين الرأي الواحد وإن جنح، ويصادر الرأي المخالف، ولو قام على اجتهاد مقبول، وحجة سائغة مستحسنة.
* في فرض الفكر وإثباته ليس للقلة أو الكثرة أي اعتبار، إن نحن حيدنا العقل، وركبنا الهوى، وامتطنا العواطف: كثرٌ، ولكن عديد لا اعتداد به جمعٌ، ولكن بديدٌ غير متسقِ حارت عقائدنا، زاغت قواعدنا أما الرؤوس فرأيٌ غير متفق قد تفقد أمة من الأمم، أو مجتمع من المجتمعات عقلها في حقبة أو حقب زمنية معينة، لكن هذا الفقدان هو في الأغلب غير حقيقي، بل هو غياب وقتي، لأن العقل الجماعي يمكن ان يغيّب إذا جففت منابعه، لكنه لا يمكن ان يفقد نهائياً، إلا إذا غابت أمة بأكملها عن الوجود بكل ما تمتلك.
* وحينما يستولي على الإنسان الهوى ويحيد العقل، طبيعي أن نقف عند عتبة الماضي وندور حوله منغلقين وننسى أن الإسلام من حيث هو وحيٌ إلهي مستقل عن الزمان والمكان، لأنه الماضي والحاضر والمستقبل، فهو حركة دائمة تدعو إلى التغيير والتجديد والانطلاق، وتنبذ المبالغة، والتحيز، والتعصب، والخضوع للعاطفة، والوقوع تحت تأثير الشائعات، والرؤية النصفية، وتفسير الظواهر بعامل واحد، تنتفي معه ولا تتحقق خلافة الإنسان في الأرض وإعمارها، والتي اختصه الخالق بها دون سائر مخلوقاته.
* إن الأمة التي تلغي عقلها وتركن لهوى شذاذها لا يمكن ان تحافظ على كيانها ومقوماتها وحضارتها، وإن كانت باقية على تدينها وعبادتها، فالأمم لا يمكن ان تعيش على التدين فحسب، لأنه غريزة من غرائز عدة في الإنسان هو أهمها بلا شك، والمطالب الحياتية الأخرى، كالأمن من الخوف، والأمن من الجوع، والأمن من المرض، والأمن على العرض، والأمن على الكرامة كلها حاجات نحن بأمس الحاجة إليها، لنضمن مستقبلاً أكثر طمأنينة وأمنا.

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved