يأتي انعقاد مهرجان الجنادرية التاسع عشر للتراث والثقافة ليجسد فكراً قيادياً واعياً، فالقافلة تواصل سيرها إلى الأمام في مسيرة النماء والبناء، لن تعيقها أرجاف فئة ضلت طريق الحق، ولن توقفها تخرصات فكر آثم.
يتواصل انعقاد مهرجان الجنادرية «التظاهرة الحضارية» منذ انطلاقتها الأولى في عام 1405هـ وإلى ما شاء الله بإذنه تعالى في ظل قيادة راشدة لتعكس معطياته فكراً نيراً يستهدف إثراء الحركة الفكرية والثقافية والحفاظ على الإرث الإنساني بما يرمز إلى القدرة على مواكبة المستجدات والمتغيرات العصرية مع الحفاظ على الثوابت الأساسية لمجتمع سعودي عربي مسلم، والانطلاق منها إلى ما يسهم في خدمة الإنسانية فكراً وعملاً.
** لقد أتاحت لي الدعوة الكريمة التي تلقيتها من لجنة مهرجان الجنادرية التاسع عشر، فرصة الاطلاع عن كثب على عطاءات ريادية وفعاليات حضارية تدحض أي افتئات على واقع يحفل بالمعطيات الحضارية الخلاقة، ذلك أن مهرجان الجنادرية يجسد حقيقة أننا أمة تحتفي بالتراث وتهتم بالفكر، وتعنى بالثقافة كرافد حيوي في مسيرة هذا المجتمع العربي الأبي.
ويتميز المهرجان في عطاءاته بتمكين التمازج بين التراث الأصيل ومعطيات المعاصرة في نسق حضاري يقدم قيماً حضارية حديثة.
** ولقد أثبتت مهرجانات الجنادرية حقيقة الدور العصري للحرس الوطني كمؤسسة حضارية تجاوزت حدود الدور الأمني العسكري إلى مفاهيم أشمل وأدوار أعمق لتنتصب شامخة بمعطيات تنموية وأبعاد شمولية تستهدف بناء الإنسان فكراً ووعياً وتنمية، ويتجاوز أثرها حدود المملكة ليشمل عالمينا العربي والإسلامي.
فلقد أسهمت الجنادرية ليس فقط في الدور الوطني المتمثل في التعريف بجوانب هامة من تراثنا الأصيل وثقافتنا العريقة، بل حققت تقارباً ملموساً بين فعاليات ثقافية عربية بارزة لتنتهي برؤية فكرية عربية مشروعاً متاحاً للتجسيد العربي. حيث يؤكد المهرجان على أن قضايا أمتنا العربية تحتل مساحة واسعة من الاهتمام في مشهدنا الثقافي، ولذلك فلقد حمل المهرجان الهم العربي والإسلامي في فعاليات دوراته المتعاقبة.
فلقد اختارت لجنة المهرجان (إصلاح البيت العربي) موضوعاً أساسياً لجنادرية 19، حيث تتناوله فعاليات المهرجان من عدة محاور تشمل:
- المحور الاقتصادي.
- المحور الاجتماعي.
- المحور الثقافي والإعلامي.
** لقد حقق مهرجان الجنادرية مكانته البارزة في المشهد الثقافي العربي والإسلامي لأنه ينطلق من رؤية واضحة تعتمد محوري التراث والثقافة وتتخطى المحلية إلى المدى العربي والإسلامي، ولقد جسَّد ذلك الدكتور عبدالملك مرتاض الناقد الجزائري المعروف حين قال:
(الجميل في مهرجان «الجنادرية» أنه ينطلق من رؤية عارفة بأهمية الهوية، فهو من الفعاليات الثقافية القليلة التي تسعى لذلك، وتحرص عليه من خلال تصورات واضحة، وهذا من الأسباب التي جعلته مهرجاناً مميزاً، ومختلفاً عن غيره من حيث الطابع العام، وربما يعود ذلك - أيضاً - إلى أنه يجمع بين محوري: الثقافة والتراث، ويحاول ان يعكس طبيعة المجتمع السعودي ثقافياً وتراثياً، لكنه مع تلك الخصوصية حقق حضوراً عربياً وعالمياً ملفتاً وبات من الفعاليات الأكثر أهمية في الوطن العربي كله.
وفي ذات الإطار يقول الدكتور حسن الامراني الشاعر المغربي المعروف: «من أهم مميزات الجنادرية» كمهرجان تراثي ثقافي، أنها تحمل رؤية متبصرة لضرورة توحيد الوجهة العربية والإسلامية تجاه القضايا المصيرية بالنسبة للأمة فكل المحاور التي يطرحها المهرجان، لا يمكن فصلها عن الواقع الذي يعيشه العالم العربي والإسلامي في كل مكان، سواء في المشرق أو المغرب، وهو بالنسبة لي كإنسان مغربي يمثل علامة مهمة في عملية وصل ما انقطع بين المثقفين العرب في المشرق العربي والمغربي.
ويقول الدكتور عبداللطيف الأرنؤوط - ناقد سوري -: (يتميز بشمولية مظاهره ثقافياً وتراثياً ويتحرى طرح الكثير من القضايا المهمة التي قد تغيب عن سواه، وهذا - من وجهة نظري - ما أعطاه الصبغة العربية بشكل خاص، والإنسانية بشكل عام فهو قد تخطى محليته برؤية مدروسة تجعله قادراً على الاحتفاظ بمكانته اللائقة في عقول الأدباء المثقفين والمفكرين على المستويين: الفردي والمؤسساتي).
** ولم تكن جنادرية 19 لتغفل «همّا» يؤرق المجتمع المتمثل في ظهور محدود لفكر تكفيري دخيل على مجتمعنا المتسم بالاعتدال والوسطية، حيث تضمن برنامج المهرجان ندوة هامة بعنوان «التطرف والغلو.. الاسباب والعلاج» يشارك فيها نخبة من العلماء والمتخصصين، تسهم نتائجها بمشيئة الله تعالى في تحديد الأطر المحددة لمواجهة هذا التوجه المنافي للتعاليم الإسلامية السمحة.
والحقيقة هي أن هذا المهرجان.. التظاهرة الحضارية يعد منبراً سنوياً لمفكري الأمة ومثقفيها يتبادلون في فعاليتها الرؤى ويطرحون في منتدياتها الافكار، بما يصب في النهاية في ما يخدم إنسان هذه الأمة الأصيلة، وهو كما قال سمو الأمير متعب بن عبدالله «إن صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز أدرك منذ زمن مبكر الحاجة إلى هذا المهرجان ليكون منبراً وملتقى رحباً لأدباء الأمة ومثقفيها ومفكريها، يلتقون فيه كل عام ليكون عاملاً على التآلف والتآخي ووحدة الكلمة وجمع الصف لما فيه مصلحة الإسلام والعروبة»، ولقد تحقق بالفعل ما كان يأمله سموه الكريم.
** وإذا ما كان لنا من تطلع في قادم الجنادرية، فإنه يتمثل في تناول موضوع يستقطب أهمية متزايدة في ظل متغيرات دولية متواصلة، ألا وهو موضوع الخطاب الإعلامي السعودي والعربي ودوره وتأثيره المأمول في صناعة الإعلام الغربية ووسائلها المرئية والمسموعة والمقروءة.
ولقد بدا واضحاً الحرص على أن يكون للنشاط الثقافي النسائي دور فاعل في برامج المهرجان، إلا أنه يظل هناك أمل في المزيد من التوسع في هذا النشاط من حيث المشاركة ومن حيث تنوع القضايا المطروحة، لاسيما الدور المستقبلي للمرأة في التنمية الوطنية.
وإن كان المهرجان قد تضمن ندوة عن التطرف والغلو الأسباب والعلاج في تفاعل واعٍ مع المتغيرات المعاشة، إلا أن المأمول ان يأخذ هذا الأمر في الدورة القادمة المزيد من المساحة في برنامج المهرجان.
** وأخيراً فإن حدثاً بهذا الحجم ما كان ليحقق النجاح الذي تحقق - بإذن الله تعالى - دون جهود كبيرة من القائمين عليه على اختلاف فئاتهم وأدوارهم، وفي مقدمتهم سمو الأمير بندر بن عبدالعزيز رئيس اللجنة العليا للمهرجان وسمو الأمير متعب بن عبدالعزيز مهندس المهرجان ونائب رئيس اللجنة العليا ومعالي الدكتور عبدالرحمن السبيت رئيس اللجنة التنفيذية للمهرجان، فلهؤلاء جميعاً الشكر والتقدير على ما قدموه لتكون هذه التظاهرة بما ظهرت عليه مناسبة نعتز بها وتظاهرة نفخر بها.
|