والذين يخرجون على الشرعية بقول أو بفعل، ثم لا يفرقون بين المعارضة ونقض الميثاق، يزجون بالأمة في أتون الفتن، ويفقدون الاعتصام الهادي إلى صراط مستقيم، فكل نظام سياسي لا يكون فاعلاً حتى يجد سبيله إلى التمثيل، والنظام السياسي الإسلامي يقوم بالبيعة، وهي لا تقوم إلا على السمع والطاعة في المنشط والمكره، ولا يسوغ نقضها إلا عندما يحدث الخليفة كفراً بواحاً عند العلماء فيه من الله بيان قطعي الدلالة والثبوت، والمعارضة غير النقض، لأنها اختلاف معتبر، فيما يكون النقض فسخاً للبيعة، وإذ لا تكون المعارضة محظورة يكون من واجب ولي الأمر الإصاخة لذوي الرأي، ومن حقه عند اختلاف التنوع العزم والحسم، وهو ما توحي به آية الشورى: {فّإذّا عّزّمًتّ فّتّوّكَّلً عّلّى اللهٌ} فالعزم هو البت في القضايا المختلف حولها عند الملأ المفتين وأهل الرأي والمشورة، ولو لم يكن لولي الأمر عزم يبت فيه مسائل الاختلاف لكان أن وقعت الأمة في المراء العقيم، وضاعت مصالح العامة، وتحول الناس من جد العمل إلى فضول السفسطة والمناكفات، والسفسطة: ظاهرة فلسفية إجرائية مؤداها الجدل من أجل الجدل، و«العزم» المنقذ في لحظات الارتباك لا يعني مخالفة كل الأطراف، ولا يعني الاستبداد بالرأي، ولا يعني حكم الفرد وإلغاء الرأي العام، كما لا يتسع لمفهوم أن الشورى ملزمة أو غير ملزمة، وتداول مثل هذه المفاهيم يعني التقليل من أهمية الشورى الإسلامية، والقدح في الفكر السياسي الإسلامي، وكل ما أفهمه أن «العزم» يعني الميل إلى ما تطمئن إليه النفس عند تضارب الآراء واختلاف وجهات النظر وعدم الوصول إلى رأي موحد، وحين يحصل الخروج على الشرعية باسم المعارضة المشروعة يرتبك الرأي العام، بحيث لا يفرق بين المعترض على الفعل والخارج على الفاعل، وفي ظل هذه الأطياف فإن على المتقَحِّمين لمشاهد السياسة أن يتقنوا المفاهيم، بحيث يفرقون بين المواقف، فالمعترض يجادل بالقول، والمفارق يواجه بالسلاح، والمعارض يراجع في المسائل، والمنشق ينازع على الشرعية، وبين الاثنين مثلما بين لغة الكلام ولغة السلاح. فالاختلاف والمراجعة والنقد والمساءلة والمناصحة وإبداء الرأي حق مشروع بضوابطه وعبر قنوات التوصيل المعتبرة والمأمونة العواقب، وقد قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: - «لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها»، ثم إن الاستماع للرأي المعارض لا يعني القبول به على إطلاقه، وليس من تمام المعارضة أن تنصاع السلطة إليها، ولا أن يُجمع الناس على أنها الأجدى والأهدى. المعارضة حق، وسماعها واجب، والقبول بها مرتبط بمصلحة الأمة وبقدرة قادرها على التنفيذ، فقد يكون رأي المعارض فاضلاً، وما عليه ولي الأمر مفضولاً، ولكن الظروف والإمكانيات تحول دون التحول من المفضول إلى الفاضل، المهم أن يسمع ولي الأمر، وأن يوفر قنوات مأمونة للتواصل، تمكنه من استجلاء الآراء والأخذ بأحسنها، وأن يجد المعارض حرية القول المنضبط، ولس من مقتضيات المعارضة عدم الولاء والمحبة، ولهذا جاء في الحديث: «أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً» ولما أشكلت إعانة الظالم على الصحابة، وضحها المشرع بأن الإعانة تعني رده عن الظلم، وإذ يكون من مقتضيات الولاء السمع والطاعة لا يكون من مقتضياتها القبول المطلق، وإنما هي المشروطة، والقول عن الخطأ غير المقصود أو التصرف غير السديد من النصح والولاء والاخلاص والمحبة، وليس من مقتضيات المعارضة التحزب ولا التكتل، ولا تعمد تفتيت الأمة، ولا تشكيل الزعامات المعارضة، وليس من مقتضياتها التباهي بها والادلال، وليس من مقتضياتها تشكيل جماعات الضغط، وتهييج الرأي العام، واستغلال العقل الجمعي، وليس من مقتضياتها أن يكون المعارض أزكى من الموافق أو الصامت، فالخطاب الثوري يفترض العداوة مع السلطة وتخوين الموالين لها دونما تفصيل، ومن الخير أن يقول المعارض كلمته ويمضي، وعلى ولي الأمر أن يلقي السمع وهو شهيد.
والذين يكيدون لولي الأمر يكيدون للبلاد، والذين يصدقونه ولا يصدقون معه يكيدون له، والمقتدرون الصامتون عن الحق إيثاراً للسلامة وصفوا بأنهم شياطين خرس، وكم هو الفرق بين صامت يتأمل ويستبين وصامت لا يبالي بأي واد هلكت الأمة، والذين يطوقهم ولي الأمر شطراً من مسؤوليته ثم لا ينصحون لله ولرسوله وللمؤمنين، يخونون أماناتهم، وعلى كل الأحوال فنحن أحوج ما نكون إلى فهم الأشياء على أصولها، وإذ نكون مع «المعارضة» بضوابطها فإننا ضد الانشقاق، فالمفارقة والمقاومة تؤديان إلى الفتنة، وقد تمتدان إلى الفراغ الدستوري، والمسايرة الخاطئة أو تبرير الأخطاء تؤديان إلى الفساد الكبير، وخيانة الأمانة تعوق مسيرة البناء، وما نسمعه ونشاهده عبر المواقع والقنوات من نيل مباشر وافتراء كاذب ومبالغات زائفة دليل على أن المسألة ليست معارضة مشروعة، وإنما هي نقض للميثاق، وتنازع على السلطة، وخلط للأوراق، تفوت الفرص على الناصحين، واختلاف وجهات النظر لما تزل قائمة عند العقلاء والمجربين، والصحابة رضوان الله عليهم راجعوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما هو من أمور الدنيا وقال لهم: أنتم أدرى بأمور دنياكم، فعلوا ذلك، وهم يعلمون أن من ثوابت العقيدة أن يكون الرسول أحب إلى المؤمن من نفسه وماله وولده، ومتى تعرضت الأمة لعدم التفريق بين المعارضة والنقض، واختلطت عندها المفاهيم، تحركت الأيدي الآثمة المتربصة لتخلق التناقضات والتناحرات، ثم تمد هؤلاء وأولئك بالسلاح، تبديه تارة، وتخفيه أخرى، حتى إذا شارفت أي فئة على حسم الموقف، اتجه التأييد إلى خصومها، وهكذا تعيش الأمة المصابة بهذه الأدواء بين جزر ومد، لتفقد في النهاية أمنها واستقرارها وثروتها بل تفقد وجودها الكريم، وحتى لا يعرف المقتول لماذا قُتل، ولا يعرف القاتل لماذا قَتل، وإذا كانت السلطة غنيمة تتنازع عليها القبليات والطائفيات، وتحسم أمرها الثكنات العسكرية تصبح العامة كقطيع الماشية، أما إذا كانت المصلحة العليا هي الهدف فأي مواطن تلقى الراية فهو أحق بها، وواجب الخاصة المقتدرة أن تحمي الساقة وترود للمقدمة، وتحويل السلطة إلى هدف أسمى يعرض البلاد إلى الويلات، و ما الثورات المتلاحقة إلا ناتج صراع على السلطة، وكل الذين ينتزعونها بقوة السلاح، لا يحافظون عليها إلا بقوة السلاح، ومن أراد أن يعرف خطورة الفراغ الدستوري فلينظر إلى من حوله من دول كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، ثم عصفت بها الفتن، ودخل أهلها في حروب أهلية أو طائفية أو حزبية أو حدودية، أذهبت الحرث والنسل، إنها بلاد ذاقت حلاوة الأمن، وتمتعت بالاستقرار، ونعمت بالرخاء، ثم اختارت التنازع على التعاون، والتفرق على الاعتصام، ومنازعة الشرعية على مناصحتها، ونقض الميثاق على الوفاء بالعهود، فأصبحت ناراً تلظى، وفقد أهلها كل مقومات الحياة الكريمة، والنكسات المؤلمة ربيبة من لا يفرق بين التآمر والتقصير الذاتي، ولا بين الوصولي والأصولي، ولا بين المقاومة والإرهاب، ولا بين المعارضة المشروعة والانشقاق المحظور، وعجبي من أناس يعيشون حالة من العقد النفسية، بحيث يجعلون كل خطيئة ناتج تآمر، وأعجب من ذلك مثقفو سماع جوف ينفون التآمر جملة وتفصيلاً متخذين الحضارة الغربية قدوة وعضداً، ومصائب الأمة من كتبة منشئين على عين الأعداء، يقولون ما قالوا، ويزعمون استيعاب الحضارات، ومن ناشئة لا تعرف الفتن، لقد فتح شبابنا عيونهم على الأمن والرخاء والاستقرار، وظنوا أنه باق فيهم، وأنهم أهله وخاصته وأحق به، ولقد أشار «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه إلى أن نكبة الإسلام والمسلمين ممن لا يعرفون الجاهلية، إن على قادة الفكر والإصلاح والدعوة أن يبصّروا الشباب بخطورة الوضع واختلال الزمن النفسي والفكري، فما عدنا نتحمل مزيداً من الترديات، ودعاة السوء يتخطفونهم من كل جانب، ويدفعون بهم إلى مهاوي الهلكة، والكتبة المبتدئون والمتهافتون على القنوات والمواقع دون وعي، يتعمدون الإثارة بمقاربة المناطق الحساسة، وقد يتبنون أفكاراً منحرفة، لا يعرفون حكم الله فيها، ولا يعرفون مجالات الاختلاف المعتبر، وما لا مجال فيه للاجتهاد، ولم يحرروا أركان الإيمان ولا نواقضه، من ثم يتسلقون إلى محاريب الضوء، ليكونوا على كل لسان، ويحسبون ذلك من المغانم، وما هو إلا عين المغارم، وليست مصائب الأمة في «عالم» متمكن يختلف مع بعض السوائد والمسلمات في خطبه أو مواعظه أو فتاواه، وإنما هي في «متعالم» فج الآراء متسرع في الأحكام، يختط لنفسه مشروعاً سياسياً قائماً على العنف وتصفية الطرف الآخر، ويتفانى في إسقاط السلطة، وهو لا يملك مشروعاً ولا كوادر ولا قاعدة عريضة، وكل حساباته تقوم على الحلم الطوباوي الذي يحسب أنه يتحقق بإسقاط النظام، ثم لا تكون له حسابات فيما بعد، ولقد قدمت أمريكا أوضح الأمثلة، حين أسقطت النظام في العراق، ولم يكن في حسابها أن إعداد البديل أخطر من إسقاط القائم، فكان أن انغمست وانغمس معها شعب بريء في حمأة الفتن، وحتى الذين يطالبون بخروج المحتل في ظل هذه الظروف يدفعون بالشعب العراقي إلى حمامات الدم، الاحتلال خطأ فادح، وإسقاط النظام دون بديل خطأ فادح، وخروج المحتل واللحم على الوضم نكبة موجعة، والشعوب دائماً تكون ضحية «المتعالمين» و«الطوباويين و«المجازفين»، إننا نخلط بين العالم والمتعالم والمعارض والناقض ومن يريد إسقاط الشرعية ومن يريد إصلاحها، ومثلما تتضرر الأمة في اختلاط المفاهيم بين المعارضة والانشقاق، تتضرر كذلك في الخلط بين «عالم» يملك مشروعية الاجتهاد، ويتوفر على أهلية الطرح، ويقول رأيه في القضايا، وهو على علم بالظروف والأحوال والممكن والمستحيل وفقه الواقع ومتطلبات المرحلة، و«مبتدئ» مهتاج أعزل لا يقدِّر ولا يدبر، يتبنى شق عصا الطاعة، ويجمع من حوله المريدين، ويناصب الآخر العداوة والبغضاء، يتبنى الحدية والواحدية، ويشكك في الأهلية والأحقية والأمانة، ويحرض على المقاومة والتمرد، ولن تستقيم أحوال الأمة حتى توضع الأمور في مواضعها، فلا يقال للمخفق إنه متراجع، ولا للمتراجع إلى الحق إنه انتهازي.. وعلى الرأي العام ألا يندفع وراء سراب القيعان، ولكيلا أُقرأ على غير ما أريد، أقول: إنني أرحب بعودة الهاربين بأبدانهم أو المخالفين بأفكارهم، وأحمد الله على لمّ الشمل وتوحيد الكلمة، وليس بعد هذا من مزيد، وأتمنى من كل قلبي أن يعود الهاربون بأبدانهم وأفكارهم خارج البلاد والمنشقون المختفون في الكهوف والمغارات إلى أهلهم وذويهم، وأن يمارسوا حقهم في المراجعة والمناصحة تحت ضوء الشمس، فما عادت الأمور تتطلب مزيداً من المشاكل، والبلاد وأهلها وقادتها بأمس الحاجة إلى الكفاءات الوطنية التي أخطأت الطريق أن تعود إلى سربها، إن البلاد تنعم بالأمن، وما عليه قادتها ومسؤولوها وعلماؤها ومفكروها من تقصير يمكن علاجه بالتي هي أحسن، وكلنا خطاؤون وخير الخطائين التوابون، وما عصم إلا الأنبياء، ومن ثاب إلى رشده من قبل أن تقدر عليه السلطة استحق اللطف في المساءلة والرأفة في العقاب، فليبادر أبناؤنا وفلذات أكباد البلاد إلى حضنه الدافئ وعطائه الثر، وعلى رجال الفكر أن يتلقوا راية النصح والتوعية والتهدئة بروح متفائلة وموعظة حسنة ودفع بالتي هي أحسن فالزمن غير مواتٍ، والعبوات الناسفة تملأ الرحب، والعالم العربي والإسلامي يعيش حالة من الضعف والتفكك والهوان، وليس بمقدور أحد من حملة همه أن يضع التصور النهائي للمستقبل، ولكن عليه أن يعي نفسه وواقعه، وأن يمد رجله على قدر لحافه، والزمن زمن الهدوء والسكينة والارتداد إلى الداخل والتعاذر والتعاون على البر والتقوى.
|