لم آسف في عامي هذا.. بقدر أسفي على حرماني من حضور افتتاح الجانب الثقافي من «مهرجان الجنادرية» مساء الخميس الفائت.. وحضور تكريم الشيخ العلاّمة، الأديب الرحال المشهور، والداعية الإسلامي المعروف.. محمد بن ناصر العبودي.. في مهرجان هذا العام.. والاستمتاع كذلك بقصيدة شاعر الافتتاح الشاغر سعد عطية الغامدي..
لم يحرمني من حضور هذه الزفة الثقافية المباركة.. إلا سبب طارئ فاجأني آخر نهار الخميس.. والحمد لله على كل حال.
ولعلَّ عذري يكون مقبولاً لدى الجميع.. وبخاصة أنني من أوائل من هنأوا وباركوا للشيخ محمد العبودي، مشافهة، في هذا التكريم المستحق.. بعد نشر خبر صغير ويتيم عنه.. ورد عليَّ قائلاً: «شكراً ولكن ما شِفْت شي» يعني أن الخبر لم يتابع بما يؤكده ويؤصله.. قلت له: كل آتٍ قريب..
وبحق حصل له ما أمَّلَه وأمّلْتُه له، عندما اقترب موعد المهرجان حيث هَدَرَتْ أنهار الصحف بالمقابلات الاستطلاعية الضافية الغنية.. والاستضافات الجيدة لعدد من المثنين على الشيخ.. ومُقَدِّري قيمته.. اختارهم المحرر الصحفي الثقافي.. دون اتصال بغيرهم.. «لعلَّ له عذراً وأنت تلوم»..!
***
معرفتي بالشيخ محمد العبودي بدأت منذ «48» سنة.. وذلك حينما عَيَّنني سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله الرئيس العام للكليَّات والمعاهد العلمية (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حالياً) بعد تخرجي في كلية الشريعة بالرياض نهاية عام 1376ه بوظيفة «المفتش الفني» أي مفتش المواد العلمية على أساتذة وطلاب المعاهد في الفصول.. وأظنها تسمى حالياً «الموجِّه التربوي».
فسافرت عام 1377هـ إلى كل منطقة أو مدينة فيها «معهد علمي».. ومن جملتها المعهد العلمي في بريدة.. حيث استقبلني الشيخ العبودي وعدد من أساتذة المعهد استقبالاً حافلاً؛ جزاهم الله خيراً.. وأذكر منهم فضيلة الشيخ محمد السبيل أمام الحرم الشريف حالياً.. والشيخ صالح البليهي - رحمه الله - والشيخ شيبة الحمد.. وآخرون.
وكان معهد بريدة من أكثر المعاهد انضباطاً أكاديمياً وإداياً؛ بفضل حنكة وجديَّة مديره الشيخ العبودي.. وتكررت الزيارات مرة أخرى عام 1378هـ.
***
من هذه البداية المعرفية بشخصية الشيخ «أبو ناصر» توثقت العلاقة الأخوية بيننا حتى يومنا هذا. ثم كانت مراسلته لي عندما كنت رئيساً للنادي الأدبي بالرياض.. حول كتب رحلاته في العالم.. وقد طبع له النادي بعض كتبه. وفق إمكانات النادي المحدودة.
ولن أتحدث هنا عن الأعمال الوظيفية التي أسندت للشيخ فقام بها خير قيام. وهي معروفة للجميع.. ولن أتحدث عن مؤلفاته وهي كثيرة.. وتمثل كتب الرحلات فيها 90% تقريباً، ولذلك فهو يعتبر أكثر الرحالة العرب المعاصرين تطوافاً في أرجاء الأرض.. مبتعثاً من الجهات التي كان يعمل فيها؛ ومن جهات أعلى للاطلاع على المراكز والمدارس والأقليات الإسلامية لتصحيح بعض المفاهيم لدى كثير من المسلمين في إفريقيا.. وفي آسيا.. وفي أمريكا الجنوبية.. وكان يحمل معه في رحلاته أموالاً من حكومة المملكة العربية السعودية لتوزيعها على الجهات المستحقة للدعم والمساعدة كالمساجد؛ ومدارس تعليم القرآن وتحفيظه؛ والهيئات المشرفة على أحوال المسلمين.. وغيرها..
لكنني سأومئ هنا «إيماءة أوليَّة» حول نوعية مؤلفاته واهتماماتها.. فهذه المؤلفات ذات تنوع ثلاثي:
1- النوع الأول: وهو أهمها - في رأيي - كتبه عن وطنه.. «المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية». وهو معجم خاص بمنطقة القصيم.
وكتاب «الأمثال العاميَّة في نجد» ويتضمن «1000» مثل من الأمثال المعروفة في منطقة القصيم.. ويتفق أكثرها مع ما هو معروف في المناطق الأخرى، بهذا الكتاب كان العبودي أحد «الرواد الأربعة في نجد» الذين كَرَّمهم «مؤتمر الأدباء السعوديين الأول» الذي عقدته جامعة الملك عبدالعزيز بفرعها في مكة المكرمة عام 1394هـ.. وهؤلاء الرواد الأربعة هم «الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - عن كتابه (مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ) والشيخ عبدالله بن خميس عن كتابه (الشعر الشعبي في الجزيرة العربية) وكتاب العبودي (الأمثال العاميَّة في نجد) وكتاب (شعراء نجد المعاصرون) لكاتب هذه السطور..».
2- النوع الثاني من مؤلفاته: هي التي تناولت شيئاً من كتب التراث القديم. وهو قليل.. ربما كتابان أو ثلاثة.. حسبما أذكر.
3- النوع الثالث كتب الرحلات.. والتي تجاوزت ال«120» كتاباً عن مشاهداته في البلدان التي زارها.
أما «الإيماءة الثانية» فهي مزاملتي للشيخ محمد العبودي في رحلة رسمية إلى «تنزانيا» في شهر ربيع أول عام 1399هـ حيث شُكِّل وفد بأمر الملك فيصل - رحمه الله - لزيارة تنزانيا لتفقد أحوال المسلمين هناك.. وتقديم تقرير عن ذلك.. وتألف الوفد من: أمين عام الدعوة الإسلامية بالرياض الشيخ محمد العبودي رئيساً والشيخ إبراهيم بن صالح آل الشيخ وكيل الرئاسة العامة للدعوة والإفتاء والإرشاد - رحمه الله - ومن الشيخ محمد بن قعود مدير الدعوة الإسلامية في دار الإفتاء للدعوة والإرشاد ومن كاتب هذا الكلام ممثلاً لجامعة الإمام محمد بن سعود.
وقد بدأت الرحلة من الرياض إلى جدة على الطائرة السعودية.. وبعد جهد جهيد وتعب شديد بمطار جدة تمت رحلتنا إلى (دار السلام) عاصمة تنزانيا على طائرة سويسرية.. قرابة الفجر.. مروراً بمطار «الخرطوم» إلى مطار «كلمنجارو» في دار السلام.
أعقبت المتاعب في مطار جدة.. رحلةٌ مؤنسة جميلة استغرقت عشرة أيام للتطواف على محافظات الدولة التنزانية. ومعرفة أحوال المسلمين الذين يمثلون 75% من السكان.. ولكنهم شبه مضطهدين من النصارى الذين يمثلون هم والوثنيون باقي السكان.. بقيادة الرئيس التنزاني «جوليوس نيريري».
وكانت الحكومة التنزانية وبإشراف نائب رئيس الدولة قد وضعوا برنامجاً حافلاً باسم «مكتب نائب الرئيس؛ بيت الدولة؛ دار السلام 15/2/1979م برنامج وفد العلماء من السعودية..».
وفي مطار كلمنجارو - كان في استقبال الوفد - الشيخ مصطفى مقبول - سوداني - وهو مندوب الرئاسة العامة للدعوة والإفتاء والإرشاد في تنزانيا؛ وعدد من علماء الهيئة الإسلامية العليا في الدولة، ومندوبون على مستوى أمراء المراكز والمحافظات لمرافقة الوفد.
وهنا بدأ الجد والمرح يتعانقان ليحكيا قصة رحلة تاريخية بالنسبة لي على الأقل سأورد شذرات منها في المقال القادم، إن شاء الله.
|