* جدة - علي السهيمي:
سوق الكرنتينة يعد أو يوصف بأنه من الأسواق الشعبية، غير أن شعبيته يبدو أنها انحصرت لدى فئات معينة من مرتاديه لأمر يحمدونه في ذلك السوق، وما حامد السوق إلا من ربح كما يقول المثل العربي، وحامدو هذا التجمع التسويقي الشعبي هم من الشباب العاطل الباحث عن المكاسب بطرق ملتوية أو بائعي بضائع لجنسيات معينة أو مزوري الأجهزة الإلكترونية ونحوها.. والداخل للسوق يحس بالرهبة وعدم الطمأنينة لما يلمسه من ريبة ممن يعملون هناك والريبة هذه يتبعها مخاطر صحية وأمنية وبيئية واجتماعية وتربوية، قد تتضح من الأسطر التالية..
الأبكم والصبى:
كان أول من قابلته بالسوق صبي صغير لا يكاد عمره يتعدى عشر السنوات، وأخذ ذلك الصبي المريب يبحلق في وجهي بشكل أثارني إذ كلما ركز نظراته على ملامحي حوّلت وجهي للجهة المعاكسة فيقوم هو بملاحقتي وبنفس الطريقة وبتركيز أكثر في ملامحي وعيني وهو يردد بعض الكلمات بلغته الأفريقية ولا أعرف إن كانت تلك الكلمات مدحاً أو قدحاً لي وكل ما كنت أفهمه في تلك اللحظات هو نطقه لسؤالٍ وحيد أو هي ثلاثة أسئلة في سؤال واحد وبلغة عربية أو بلهجتنا المحلية وكان سؤاله الثلاثي ذاك هو.. هاه؟ طلباتك؟ أقدر أخدمك؟ ثم يعاود نطق كلماته الأفريقية المبهمة.. وأخيراً وبعد أن كدت أفقد أعصابي جراء إلحاح ذلك الصبي على عرض خدماته لي مع عدم انزال نظره من على وجهي.. تذكرت أنني أبكم فصرخت في وجهه على طريقة البكم وأشرت له على فمي وأذني مخبراً إياه بأنني أبكم وأصم ولا فائدة من محاولاته تلك لأنني لا أسمع ولا أتكلم وهنا وبعد أن سمع بعض المتسوقين صراخي وأشفقوا على حالي «وخاصة بعض الإخوة العرب والسودانيين تحديداً» فأخذ أحدهم بيدي وبكل لطف سحبني لأدخل للسوق أكثر وفي نفس الوقت أخذ مع البعض يلوم ويوبخ الصبي بكلمات من نوع - عيب عليك - و«داير من «المسكين شنو» - و«دا ما شيطان زييكم ولا بيعرف للرطانة بتاعكو ديه».. وسرت خلف ذلك العربي الأفريقي الطيب وهو لا يزال ممسكاً بيدي حتى توسطنا السوق ثم حاول توجيه سؤال لي عن ماذا أريد من السوق وهل جئت قاصداً مكاناً بعينه؟ وجاهد المسكين في ايصال السؤال بكل صيغة وطريقة وبالاشارة والشرح المفصل لكنني كنت قد اندمجت في تمثيل دور الأبكم إلى الدرجة التي أقنعت فيها حتى نفسي وجاء صديق آخر لهذا العربي وحاول الاثنان معي وعندما باءت محاولتهما بالفشل سحب الصديق صديقه من يده بقوة وعصبية وهو يقول له: «يا أخي ما تسيبك منوّ لأحسن دا باين لوّ ماهيّن وأراهنك إن ما كان وراوّ مصيبة».
ثم انصرفا وتركاني وأنا أتمنى لو أنني أستطيع أن أفتح فمي وأرد على كلام ذلك الصديق، لكنني وبتفكير سريع تذكرت ما جئت من أجله وأنه يجب عليّ أن أكمل المشوار حتى النهاية وعند ذلك رسمت على فمي ابتسامة بلهاء وبدهشة مصطنعة صفقت بكفي علامة تعجب وسرت مكملاً الطريق.
«يا مهمّد» ما يسوّي كدا
رأيت عن بعد دكاناً في احدى زوايا السوق يقف فيه رجلٌ خمسيني فارع الطول للدرجة التي كان واضحاً فيها ويبدو بطوله المميز جداً جداً أعلى من أطول زبون يقف أمامه كما ان دكانه ملفت للنظر من حيث كثرة مرتاديه وزبائنه وهو يوزع ابتساماته بينهم مع عبارات السلام والترحيب التي يلقيها عليهم وهي أيضاً إما بكلمات أفريقية بحتة أو بلغة عربية مكسرة..
شدني ولفت نظري منظر ذلك الدكان والأعداد الهائلة من الزبائن وكذلك صاحب الدكان فقلت في نفسي لنر ماذا يدور هناك؟ وتوجهت إليه وقبل أن أصله بخطوات وإذا برائحة كريهة لا تزكم الأنوف وحسب بل تجلب الغثيان وتسبب الصداع المزمن لأعتى وأصلب الرؤوس.تمهلت قليلاً ووضعت يدي على أنفي ثم أبعدت يدي محاولاً تجريب قوة الاحتمال لدي ومتذكراً أنه لابد من أن أبدو عادياً أمام الناس وأن الأمر لدي طبيعي جداً.. اقتربت من الدكان ومن البضاعة المعروضة فيه وتأكد لي بما لا يجعل مكاناً للشك أو الريبة أن تلك البضاعة هي بالفعل مصدر تلك الرائحة الكريهة أما البضاعة فهي عبارة عن لحم ضأني على ما يبدو أنه اللحم المفضل والذي ليس له مثيل لدى أولئك الناس وأنهم يأتون إليه من كل حدب وصوب ويتسابقون على الفوز به كل قدر استطاعته وعرفت من بعض الزبائن والذين يتحلقون أمام الدكان أن هذا المحل هو المحل الوحيد في هذا السوق وان «الحاج» الطويل كما يطلقون عليه وينادونه، إنه «راجل كله بركة» وصاحب «دين وأمانة» مع زبائنه لذلك بعضهم يأتي فإن وجد ما يأخذه من اللحم فخير وبركة وإن لم يجد شيئاً فيكفيه أنه حضر «وحصل بركة الحاج».
وأنا أقلّب بيدين مرتجفتين بعض قطع اللحم المعلقة بحبال في سقف الدكان وكذلك المطروحة على طاولة في المقدمة والذباب يرعى منها ويتغذى ولا يجد من يبعده أو يؤذيه.. وأنا أقلّب فيها متحاملاً على نفسي وبالكاد أتنفس كنت أسمع «الحاج» رغم انشغاله بالأحاديث الجانبية مع زبائنه إلا أنني على ما يبدو مع كثرة تقليبي للحمة قطعة قطعة لفت انتباهه فصار كلما وضعت يدي على قطعة يقول «مهجوز» محجوز.. وهكذا وكل ما أمسكت بقطعة أخرى تزداد لهجته صرامة وحدة «وكمان هادي مهجوز» وأنا مستمر في التقليب رغم ما أحسه من سأم وغثيان إلا أنني أحاول أن أتصنّع عدم المبالاة وأتقمص دور الأبكم والأصم الذي لم يسمع ما يقوله «الحاج» برغم ازدياد لهجته الناهرة لي حدّة وصرامة،، وأخيراً قمت بحمل احدى القطع وكنت أظنها واحدة فقط لكنها كانت قطعتين متلاصقتين وعند رفعها سقطت القطعة الأخرى ووقعت على الأرض «الترابية» وهنا جنّ جنون «الحاج» وفقد أعصابه وأقبل جهتي وهو يصرخ بغضب وزمجرة..
«يااا «مهمَّد» «يا محمد» أيش انته «مزنون» «مجنون» يا مهّمد ما يسوّي مرة تاني كدا..»
طبعاً الرجل كان في قمة ثورته وغضبه ولفت ذلك أنظار أغلبية المتسوقين وسعى عدد من الزبائن إلى الحيلولة ما بين الرجل وبيني وأمسكوا به مهدئين ومطيبين لخاطره ولو كان قد تمكّن من الوصول إلي فالله وحده يعلم ماذا سيكون عليه مصيري ولكن الله لطيف بعباده.
حرّك من هنا
لملمت نفسي وهممت بالخروج من السوق إلى غير رجعة خاصة بعد أن منّ الله عليّ بلطفه وسلمت عظامي من التحطيم والتكسير على يد ذلك «الحاج».. وقلت في نفسي فلأنجُ بجلدي والحمد لله أنها جاءت إلى هذا الحدّ، لكن وأنا في طريقي للخروج إذا ب»شلة شباب» لا تتعدى أعمارهم الخامسة والعشرين وعددهم بين الخمسة والستة يجلسون في احدى الزوايا وقد لبسوا الجنزات ووضعوا على أعينهم النظارات السوداء وربطوا رؤوسهم بعصابات ومناديل حمراء وبدوا ولأول وهلة لناظرهم وكأنهم قادمون من شوارع وأزقة احدى الدول الأوروبية، وقد لفت انتباهي لوجودهم ضحكاتهم العالية فقمت في أول الأمر بمراقبتهم عن بعد وأنا أتساءل لماذا هذه الضحكات العالية؟
وإذا بتلك الشلة ليس لهم أي عمل أو مهنة وشغلهم الشاغل هو «الهمز واللمز» ومعاكسة النساء من بنات جلدتهم واللاتي يأتين للسوق بلباسهن الأفريقي ذي الألوان الصارخة وهن في كامل زينتهن حسب التقاليد الأفريقية فتجد أولئك الشباب يتخذون من زاويتهم تلك مكاناً للتجمع و«التحرش» بالفتيات مما دعاني للقرب من المكان أكثر حتى أفهم ما يجري وأسمع ما يدور بين الشباب والفتيات فلم أجد إلا كلمات وجملاً بلغاتهم واشارات مبهمة وضحكات عالية تنبئ بأن في «الأمر شيئاً ما» وأن الشباب يقومون بطرح عروض «.....» على الفتيات ومن يناسبها العرض تواصل سيرها ويتبعها أحدهم بحذر شديد بينما من ترفض عرضهم تتبعها كلمات السخرية والاستهزاء والضحكات الساخرة، تكررت تلك المواقف أمامي وأنا أقترب شيئاً فشيئاً وفجأة برز أمامي أحدهم وسألني بلهجة محلية خاصة..
- خير تبغى شي يا أخينا؟
- ....
- إيش بك ما ترد.. ردّت المويه في زورك؟ تبغى شي؟
- وعندما رأيته يحاول الاقتراب مني أكثر وقد بدأ يلفت أنظار زملائه رافعاً عقيرته بالسؤال والتفرس في وجهي، قلت في نفسي يجب أن أتمالك أعصابي وأبقى على برودي فأنا أخرس وأصم وسأكمل ما بدأته وفي لحظات تفكيري تلك وكيف يمكنني التصرف إذ بمن يمسك ذلك الشاب مهدئاً إياه قائلاً له: «سيب الزول يا أبو الشباب دا مسكين ما بينطق حتى لو بقيت تكورك في ودانه شهر قدام» ويقصد أنني لا أسمع ولا أتكلم حتى لو أخذ ذلك الشاب يصرخ في أذني لمدة شهر!! حقيقة كنت في موقف لا أحسد عليه وأفكر كيف أتصرف فقط أخرجني من ذلك الموقف العصيب ظهور الرجل السوداني الذي قابلته في بداية الجولة وساقه الله إلي مرة ثانية لإخراجي من المأزق الثاني كما أخرجني من المأزق الأول ثم إنه هذه المرة وبشهامة أبناء السودان المعروفة لم يكتف بحمايتي من بطش ذلك الشاب فقط بل صمم على الإمساك بيدي واخراجي من السوق كله وهو يقول بحزم موجهاً السؤال لي يا أخي انته أهلك فالتينك ما عارف ليه؟ ثم يخاطب المتجمهرين: والله اللي بيمد يديهو له مرة ثانية ما بيحصل ليهو طيب، أمشي أمشي قدامي والله ما تاركك حتى أوديك لبيتكم يا الله يا الله توكلوا على الله انتو هيّه فرجة؟ وفعلاً سحبني بيدي وبقوة قاصداً الخروج وفجأة يعود ذلك الشاب ويشدني من يدي الأخرى ويقول بلهجة كلها تهديد من لم ولن يخاف العواقب! اسمع قسماً بعزة جلال الله لو عاد شفتك هنا لا تشوف شي عمرك ماشفته يا الله حرّك من هنا قبل لا أخلي أمك تبكي عليك حرّك!!!
خرجت من السوق وأنا أمسح وأجفف ما يملأ جالوناً من عرقي الذي أخذ يتصبب من جسمي كما لو أنني كنت في فرن تبلغ درجة حرارته 100 درجة خوفاً ورعباً وعدم تصديق بأنني نجوت من كل تلك المآزق التي واجهتني في سوق الكرنتينة أحد أكبر المنتجعات «الخمسة نجوم لفيروسات الأمراض المعدية والبكتيرية والذي يباع فيه كل ما هو فاسد من طعام وشراب وتنحر فيه الفضيلة على قارعة الطريق، وبطريقة كوميدية» بعد أن خرجنا من مدخل السوق أفلت من يد السوداني الطيب وأخذت أركض وأركض حتى ابتعدت عنه ودخلت في أزقة وشوارع إلى أن وصلت إلى المكان الذي أوقفت سيارتي فيه وركبتها وأنا في غاية الإنهاك والتعب الجسماني والنفسي وعرفت أن من كانوا ينصحونني بعدم الاقتراب من سوق الكرنتينة كانوا فعلاً على حق فما وجدته هناك كان أشبه بالحلم أو الكابوس المزعج الذي لم أصحُ منه إلا وأنا أمام مقر الجريدة لأبدأ كتابة فصول هذا التحقيق وهذه المغامرة ويبقى السؤال معلقاً وهو:كيف يمكن العمل على آلية واستراتيجية صحيحة تشترك فيها جميع الدوائر المسؤولة في محافظة جدة إما بتنظيم هذا السوق وتطويره، أو بإقفاله منعاً ودرءاً للمخالفات الأمنية فيه وأيضاً لاستئصال جذور الأوبئة والأمراض الخطرة التي هو أحد مسبباتها وحقل خصب لبذرها ونموها وانتشارها.
|