ان الاسلام يبدأ من منطقة الفكر ليطرح القضية ببراهينها وينتهي بها الى الاقتناع ثم يخرجها الى الالتزام العملي في مأمن من السلبيات والتجاوزات وليس بهدف تعطيل الاختيار وقمع الحريات ففي نطاق الايمان نفسه تأخذ الحرية ابعد آفاقها في البحث والتفكير والاختيار اذ ان الانسان حر في ان يؤمن او يبقى على كفره لكن هذه الحرية تتوقف عند حرية الاخرين فهي اولا تتوقف عند حرية المؤمنين بكف الاذى عنهم ووقايتهم من فتنة الصادين عن دين الله فلا حرية لمن يفتنون المؤمنين في دينهم بالاغواء وبالاغراء او بالاكراه فمن حق الدولة ان تتخذ اي اجراء رادع بحق المفسدين بدفع فتنتهم والحد من شرورهم وكذلك فإن الحرية تتوقف عند حق غير المؤمنين في ان يصلهم الهدى كاملاً في تبليغهم بكلمة الله في منأى عن المهيمنين على حرية الشعوب الذين يحرمون الناس من سماع كلمة الحق والذين يسدون منافذ بلادهم في وجه الدعوة الى الله والذين يعمدون الى تشويه صورة الاسلام حتى ينصرف الناس عنه والحرية في الاسلام لاتتعدى على الحرية الشخصية طالما ظلت في نطاق صاحبها ولاتحرض على الفساد او الاخلال بنظام المجتمع فالاسلام لم يأذن باقتحام البيوت او تسورها لمراقبة التصرفات الشخصية التي لا تمس بامن الدولة ولا بالاستقرار العام فللبيت حرمته وللفرد حريته وهو لا يؤاخذه الا بما يصدر عنه تجاه سلامة المجتمع وحرمة القيم فالتفكير حر والتعبير حر في نطاق الشرع والاخلاق ومصلحة الامة فليس من الحرية ان يتحول التفكير والتعبير الى اداة لاثارة الفوضى وتخريب النظام و نقد الاستقرار العام والمس بمصلحة الدولة والشعب باسم الحرية والمعارضة او بدعوى الاصلاح والتطوير وتدخل الدولة والمجتمع لمقاومة الفساد والتفلت الاجتماعي والسياسي لايعني الكبت والحجر على الحريات انما يعني لجم الفوضى والتجاوزات وحماية الاستقرار والحريات هذا التدخل يصبح في احيان كثيرة واجباً شرعياً لدفع الاخطار والاضرار ولوقف وسائل التخريب والهدم ولحماية الافراد والامة من شر الفتن التي تقضي على مصالح الجميع انما المجتمع وحدة متكاملة واستخدام الحرية بما يضر المجتمع وسلامته يصبح استخداما جائرا يعرض الجميع للشر والهلاك فلابد اذا من محاصرة هذه التجاوزات والحد من سوء استخدام الحريات وعدم الالتفات لها لتذرع بالحرية الذي يتسلح به اصحاب الاغراض الهدامة.
ثم ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدأ بالبيان والنصح والتنبيه والتحذير انطلاقا من قوله تعالى {وّلًتّكٍن مٌَنكٍمً أٍمَّةِ يّدًعٍونّ إلّى الخّيًرٌ وّيّأًمٍرٍونّ بٌالمّعًرٍوفٌ وّيّنًهّوًنّ عّنٌ المٍنكّرٌ وّأٍوًلّئٌكّ هٍمٍ المٍفًلٌحٍونّ} وهذه المرحلة تحتاج الى اعادة النظر في الثقافة العامة وفي القيم الذائعة وفي وسائل التربية من اجل تقويم العوج وتصويب المقاييس الفكرية والنفسية وتوفير المناخ الصالح لرقي المجتمع الى درجة الصدق في ايمانه والوعي بقضاياه ثم تلي هذه المرحلة مرحلة الحسم الذي لابد منه بعد استنفاد كل وسائل التربية والتوجيه والتثقيف وهي مرحلة التغيير الذي يقوم به اولو الامر واصحاب الشأن لنقل المجتمع من حالة الفلتان الى حالة الانضباط ومن فوضى الممارسات الى مسؤولية الحريات ومن انتشار الفساد الى استقرار الصلاح فيزال المنكر لاحلال المعروف.
هذا التغيير لا يترك لتصور الافراد ولا لارادة الذين يتخذون من انفسهم اوصياء على الناس ورقباء على قلوبهم وقضاة على سلوكهم ويجيزون لانفسهم احتكار فهم الدين وصلاحية تحديد المنكر وحرية الاشراف على المجتمع واحقية تكفير من خالفهم وتفسيق من لم يلتزم بارائهم وتبديع من لم يسلك سلوكهم فتلك امور اصبحت من مظاهر العدوان على الحرية فمفهوم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب ان يقوم على الحقائق الدينية التي لاتترك مستباحة لانصاف المتعلمين ولا لادعياء التدين ولا للمتسلقين على جدار الدين لتحقيق اهداف خاصة ولا للمنغلقين على رؤى مضى زمانها بمضي ظروفها واشخاصها ولا لناقمين على مستجدات الحياة والمتبرمين بتجدد الفكر ومنجزات العصر ولا لامثالهم الذين يضيقون ذرعا باحكام العقل ولا ينقادون الا للانفعالات الساخرة والعواطف المستثارة والارتياب في كل شيء وتغيير المنكر لايكون بيد المهووسين ولا بتصرف الصاخبين فليس من حق اي فرد او اي مجموعة ان تتولى مسؤولية التغيير بنفسها وبالاسلوب الذي تراه وبالحرية التي تنطلق منها وبالاجراء الذي تختاره والا لكان التغيير لما هو اسوأ لما يحدث من فوضى وتخريب وتجاوز للحدود والحرمات. ان التغيير لايكون الا بيد الدولة المؤمنة التي تملك زمام الامور وتقدر على الموازنة بين ماينفع ويضر وتمسك بتحولات المجتمع وتضع مصلحة الامة فوق كل اعتبار وتصون الامة والاستقرار وتنشئ المؤسسات العاملة على رسم خطط التغيير وعلى تطهير المجتمع من الفساد والتفكك وعلى حماية الشعب وهذه القضايا نحتاجها في هذا العصر بالذات حيث يتم التجديد في الرؤية والممارسة لحماية المجتمع من الارهاب الفكري ولصيانة المجتمع من التفلت والتصدع والارتقاء بموضوع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من نطاق الجدليات الى هرم الاولويات و اعطاء كل جانب من جوانب الحركة الفردية والجماعية حجمه من الاهتمام والتقدير حتى لاينحصر الموضوع في الجزئيات ولا يهمل المنكر الاكبر لحساب المنكر الاصغر فكلما كان المنكر اكثر تأثيراً وأفدح خطرا على القضايا الكبرى من الحياة الاسلامية كان احق بالعلاج من امور ثانوية تقلق بال السطحيين وتثير خواطرهم وتدعو غفلتهم وجهلتهم الى ان يضحوا بأرواحهم عبثا او يستهينوا بارواح مخالفيهم ظلما وهذا يتجلى ظاهرا في ما حدث في عاصمة دولتنا الحبيبة الرياض وغيرها من المدن ففي عصر القوانين والمؤسسات والانظمة يصبح التغيير ضمن اطر واجراءات ومرجعيات محدودة ترتبط بالدولة وتستمد منها صلاحياتها وميادين اختصاصها وتستثمر الدعوة الى الله في دائرة التوجيه والتثقيف والتربية ضمن مسؤولية مشتركة بين الدولة واهل الاختصاص في الشريعة والتربية وشؤون الدعوة الى الله لذلك كان في رأس الاهتمامات التي تؤهل للامر بالمعروف والنهي عن المنكر وللقيام بتعديل المنكر المتعدد الاوجه لتبين مدى ارتباطها بحقائق دينها لتصحو على الفهم السليم والمتجدد لمختلف احكام الدين ولنتمكن من الابتعاد عن مشكلات التاريخ التي مازالت تحاصر العقل الاسلامي وتفرض عليه خصوماتها وتصوراتها وحلولها وحتى تصبح الامة قادرة على التمييز بين الثابت والمتغير وبين الحكم الشرعي المحكم والسياسة الشرعية المرنة وبين المضمون الملزم والاطار المتغير وبين الحكم الموقوف على علته وتغيير الاحكام بتغير الازمان وبين الحدث التاريخي المفيد بزمانه والمسيرة الاسلامية الممتدة فوق كل الازمنة وبين التراث الذي يستمد قدسيته من قدمه والتجدد الموثوق باصوله وبين النص الالهي والسنة النبوية الثابتة والفهم البشري الاستدلالي الذي يستدعي الاجتهاد ضمن الاصول الشرعية والمقاصد المشروعة اذن هذه الضرورات تتحول الى منكرات اذا لم يحسن المسلمون فقهها او اذا وقفوا امامها جامدين مستسلمين افليس من المنكرات الخطيرة ان يترك امر تقدير المنكر في هذا العصر الى اشباه العلماء المأخوذين بحماس التدين ليعبثوا بامره بما تمليه عليهم علومهم القاصرة او فهمهم الملتوي او بما تمليه عليهم بعض المنظمات المشبوهة من الخارج فيحكموا بكفر المجتمع ويستحلوا الدماء البريئة من المسلمين وغيرهم مع ان الله يأمرنا برد الامور اليه والى رسوله والى العلماء الذين هم اعلم بالدين والحياة.
فأي منكر يداني هذا المنكر الذي يسيء للاسلام ويشوه سمعته افليس من المنكر استغراق الامة بالجدليات والانقطاع المشلول عن عالم الشهادة الذي دعانا الله الى التفكير به واستكمال قوانينه وتوظيف معارفه لخدمة الايمان والرقي بالانسان اليس من المنكر ان يغيب الجانب الانساني عن الوعي والاهتمام بينما تقوم دعوة الانسان على دعامتين تحرير العقل من الظلام وتحرير الحياة من الشقاء {فّمّنٌ اتَّبّعّ هٍدّايّ فّلا يّضٌلٍَ ولا يّشًقّى" } اليس من المنكر ان تظل كثير من القضايا محنطة في قوالب الماضي محصورة في تفسيرات وتحديدات تدور حول مفهوم التدين والجهاد والعلاقة بغير المسلمين ومفهوم الثروة وكثير من مفاهيم اعتراها النقص او الزيادة او التحيز اليس من المنكر ان تكون اول اية بالقرآن اقرأ ثم تكون اعلى نسبة للامية في العالم متمركزة في المناطق الاسلامية اليس من المنكر ان تكون شعوب عديدة من شعوب العالم الاسلامي تحت خط الفقر بينما العالم الاسلامي ينام على ثروات ظاهرة وباطنة دون استثمارها او تنميتها ودون قيام مشروع للتكامل الاقتصادي بين دوله على الاقل العربية منها بحيث تصبح نواة للتكامل الاقتصادي في العالم الاسلامي ومن ثم مشروعا للتكافل الاجتماعي اليس من المنكر كذلك ان تظل امجاد الامة امجادا ورقية صنفها الاجداد في الفكر والحضارة والعلوم وتبقى امتنا في عصر التقدم والتسابق الحضاري عالة على سواها اليس من المنكر ان تصبح عواصم العالم عواصم ثقافية متألقة وتتحول عواصمنا الى اسواق لاستيراد الثقافة من اي مكان فقد كانت في الاصل مصدرا للعلوم ومنالا للعلماء اليس من المنكر ان تكون غاياتنا نبيلة ولكن مع الاسف وسائلنا ضعيفة وقاصرة بينما عدونا غاياته سيئة في الدعوة الى المنكر ولكن وسائله متقدمة وذكية اليست هذه المنكرات واشباهها هي المنكرات الكبرى التي يجب انكارها وتغييرها قبل العكوف على صغائر الامور وقبل التطرق لمعالجة هذه الامور وقبل الصراخ والعويل والمناداة بالويل والثبور والى جانب هذا الحضور الذاتي الذي يجب ان يصدر عن عمق التدين وسلامة الالتزام.
لابد من الحضور العالمي لتكتمل رسالة الامة في نهوضها بمسؤولية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في اطراف الارض لانقاذ العالم من ظلامه وشقائه عن طريق الاعتراف اولا بايجابيات الحضارة المعاصرة والاقتباس منها ثم عن طريق القيام بنشر الرحمة والتراحم واشعار العالم بان امتنا لاتحمل سيف التسلط والقهر ولا عصا الاستعلاء والاستعداء فحقوق الانسان بحاجة الى رعاية وحماية والعدالة الدولية بحاجة الى تقويم وتهذيب والثروة العلمية بحاجة الى روح الاخلاق والهيمنة الدولية يجب ان تتواضع لخدمة الضعفاء والايدولوجيات المادية يجب ان تتوارى بعد افلاسها واغتيالها للحريات وقيم الاخلاق يجب ان تسود الثقافات والممارسات ومراكز القوة الاقتصادية يجب ان تفسح صدرها للشعوب الفقيرة.
ان امة الاسلام وهي خير امة مسؤولة عن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لتجديد فهمه وتحديد دائرته وتنظيم وسائله فلا حرية للمنكر ولا شطط في النهي عنه ولا تجاوز في تغييره وبذلك نكون امة وسطا ونحمي بيضة الاسلام ان شاء الله.
|