لعلي أقول إن ثم الكثيرين من الذين ظلمهم التاريخ، فنسب إليهم ما لم يكن فيهم من التهم الباطلة.. والتاريخ حافل بهذه الأنماط- المفترى عليهم-، كما أنه حافل بأنماط أخرى، رفعهم التاريخ، وهم لا شأن لهم ولا قيمة، غير أن الباحثين الجادين وإن قلوا، نجدهم في كل عصر ومصر، يغربلون ما يقرؤون، ثم يظهرون الزيف الذي دس على أنماط من الرجال في مختلف أدوارهم القيادية البارزة فيما كانوا يشغلون من مراكز.. وآخرين رفعهم التاريخ، مع أنهم خاملو الذكر، وتلك هي حياة البشر فيما يبدون وفيما يعيدون.!
* في العام الماضي، رأيت وأنا أتجول في معرض الكتاب بجدة، ولعل ذلك من الكتب التي وردت إلينا من بلاد الرافدين.. رأيت كتاباً قليل الصفحات، كتب على غلافه: «قراقوش»، فاشتريته، وعدت به مع ما ابتعت من كتب، وفرغت إلى - قراقوش - جلسة أو اثنتين، فوجدت مؤلفه، قد جمع أقوال رجال تحدثوا عن ذلك الرجل الذي ظلمه التاريخ، وأنا أتذكر ما يدور على ألسنة الناس هنا وهناك من سخرية في ضرب الأمثال بذلك الرجل في السوء، حينما يذكرون أنماطاً من الناس، على ما يصدرون من تصرفات لا ترضيهم..! وما أكثر ما نسمع ويقال عن أعمال وأناس، لا ترضي تصرفاتهم أكثر الناس، وأتذكر تلك المقولة السائرة:«رضا الناس غاية لا تدرك».!
* قرأت ذلك الكتاب عن قراقوش، وعلمت على سطور مما قاله المؤلف ونقله عما درس في شأن ذلك الرجل غير النكرة.! وكنت أتهيأ أن أكتب حلقات عن الذي اتخذه البطل المسلم: «صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ليكون في صحبته، وقد وكل إليه الكثير من الأمور المهمة، خلال تلك الحقبة، التي جاهد فيها صلاح الدين الصليبية، وقيض له الحق النصر المؤزر، فاسترد بيت المقدس، ونكست أوربا أعلامها حزناً على تلك الهزيمة، التي زهق فيها الباطل، لأنه دائما زهوق، ولأن للحق يعلو ولا يعلو ولا يعلى عليه، ولأن للباطل جولة، ولكن الحق جولات، حيث يدحر الباطل ويداس.!
* وحين فرغت لأكتب عن البطل قراقوش، اختفى الكتاب وغاب، وقدرت أن عفريتاً من الجن أعجبه فاستأثر به فعطلني عن مهمتي.! ومرت الأيام وأنا قلق على ضياع قراقوش - الكتاب - أما من ألف عنه فباق مع الأيام، ذلك أنه أصبح من التاريخ..
وحين أقيم معرض الكتاب في رمضان 1424هـ بجدة، سعيت إليه، بحثاً عن قراقوش، ولكني لم أظفر بشيء عنه، فظللت أتحين الفرص، حتى يتاح لي العثور على كتاب، ينصف ذلك القائد المظلوم، وأقول لنفسي، إن البطل صلاح الدين، لا يقدم على مصاحبة رجل خامل، فيتخذ منه سنداً يشد به أزره ويشركه في شؤونه وشجونه.!
* وفي الأسبوع الأخير من رمضان 1424هـ، في دار الهجرة، دار الحنان والسكينة، في ذلك الجوار الظاهر الغالي، كنت أقلب في رفوف مكتبتي المتواضعة، فلمحت كتاباً لأستاذنا الشيخ - علي الطنطاوي - رحمه الله ورطب ثراه، عنوانه: «رجال من التاريخ»، في طبعته الثانية، عام «1410هـ»، وقلبت صفحاته في إحدى ليالي الشهر المبارك، فرأيت في الفهرس، قراقوش المفترى عليه»، ففرحت بهذا العثور المتجدد، لاسيما وأن شيخنا الطنطاوي رجل بصير بما يقدم لقرائه، وأنه يتحرى الحق والصدق.. وكنت أقرؤه في رسالة الزيات، قبل أكثر من نصف قرن، واستمتع بما أقرأ له.. وسلام على أيام الرسالة، وأيام الثقافة وأحمد أمين، والكاتب المصري، ومجلة الكتاب، وما إلى هذه الكنوز الأدبية، التي كانت تملأ ساحة الأمة العربية ثقافة ومعارف وعمقا.
ثم دارت الأيام، فتراجعت الثقافة، لأنها لم تعد تناسب بعض تيارات الحياة والتغيير الذي طرأ، والذي يريد الفكر مقودا وليس قائداً، وجنح المسار إلى تلك التيارات، التي فيها البرق الخلب، وهو نمط زائف ودخيل.. وهكذا تتغير حياة بعض الشعوب إلى الأسوأ، وفقاً لمتطلبات السياسة المتغيرة حسب الأهواء، ويصدق على الواقع المتغير قول الشاعر:
ومر زمان لعبنا به
وجاء زمان بنا يلعب
|
|