السكن حُلم إنساني، وحاجة متجذّرة في وجدان كل انسان عبر جميع العصور والثقافات والمجتمعات، ويسعى الانسان الى تحقيق هذا الحلم باعتبار ان المنزل رمز وهوية ومكانة اجتماعية، وفوق هذه وتلك فالمسكن يعني السكن والهدوء والطمأنينة والراحة، وهذه معانٍ قرآنية وردت في أكثر من موضع وسياق.. من أجل هذا فلا عجب ان يكون هاجس توفير السكن، والحصول على مأوى، يمثل غريزة اساسية للإنسان لا تقل أهمية عن البحث عن الطعام والملبس، وينفق الانسان المعاصر ما لا يقل عن «35%» من دخله على السكن، بحسب النسب العالمية.
لقد أثار تأسيس مؤسسة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز لوالديه للاسكان التنموي صحوة اسكانية في الخطاب العام تجاوزت حدود الاسكان الخيري الموجّه نحو فئات عاجزة وضعيفة من شرائح المجتمع السعودي كالأرامل والأيتام والعجزة وكبار السن ومن تقطّعت بهم الاسباب والسبل، فمبادرات خيرية كهذه تسابقت لها الايادي البيضاء من مؤسسات خيرية راسخة مثل مؤسسة الملك فيصل الخيرية، ومؤسسة سلطان بن عبدالعزيز الخيرية، ومشروع الأمير سلمان بن عبدالعزيز للاسكان الخيري، أو عبر جهود جمعيات واربطة خيرية، ورجال اعمال وافراد من اصحاب القلوب الرحيمة.
الجديد في الامر ان طروحات المؤسسة «مؤسسة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز لوالديه للإسكان التنموي» ذات الصبغة التنموية اثارت الاهتمام بالاحتياجات الاسكانية لفئات اجتماعية فوق المعدمة وعلى أعتاب الطبقة المتوسطة، وهي شريحة اجتماعية معتبرة جداً في حجمها وتأثيرها، خاصة في وقتنا الحاضر الذي بدا واضحاً فيه التآكل المستمر للطبقة المتوسطة، والزيادة المتسارعة في نمو السكان، وكون أكثر من نصف سكان المملكة يقعون في فئات عمرية تعتبر من الشباب المقبلين على الحياة والعمل والزواج، فضلاً عن توقف العديد مما يسمى ببرامج «الرفاه الاجتماعية» عن النمو والتوسع، أو عجزها عن مواكبة معدلات الاحتياج الفعلي لها.
هذه الصورة «البانورامية» قد تبدو كئيبة، الا انها لاتعني بالضرورة ان تكون قدراً لا يمكن تغييره، فالمجتمع والدولة لا يزالان بخير، ويتوفران على قدر كبير من الامكانيات التي بشيء من اعادة التنظيم يمكن ان تحدث «فرجاً اجتماعياً» لمثل هذه الفئات من المجتمع السعودي.
وفي سياق الحديث عن هذه الانفراجات فإن ذلك ممكن في مجال توفير الاسكان للفئات غير القادرة عليه، ولكنها في ذات الوقت تملك الرغبة، وشيئاً من القدرة المادية، بل والدافعية للحصول عليه متى ما كان ذلك في اطار سياسة واضحة ومشجعة من الدولة ومشاركة القطاع الخاص.. وهذا يقودنا بدءاً وانتهاءً الى الحديث عن صندوق التنمية العقارية والذي كانت الدولة تموله عبر وزارة المالية.
ولكن قبل الحديث عن هذا الصندوق لابد من ايضاح ان مفهوم الاسكان الشعبي، أو ما اصطلح عليه حديثاً «الاسكان الميسَّر»، يختلف اختلافاً جذرياً عن مفهوم الاسكان الاجتماعي أو الخيري أو التنموي، فالاسكان الميسَّر هو في الاصل نشاط، أو وظيفة، تقوم بها الحكومات، أو مؤسسات مالية كبرى ذات طبيعة ربحية استثمارية، أو بالتعاون بينهما، وهي عادة برامج اسكانية في صور مختلفة موجهة لشرائح مختلفة من الطبقة الوسطى، وتعد جزءاً أساسياً من برامج جميع الحكومات، بل وتتسابق الدول على اختلاف توجهاتها السياسية والاقتصادية لدعم برامج الاسكان الشعبي «الميسَّر» لأغراض سياسية واقتصادية واجتماعية وامنية.. بينما الاسكان الاجتماعي «الخيري أو التنموي» برامج اسكانية تقوم بها عادة الجمعيات والمؤسسات الخيرية للفئات الاكثر حاجة في المجتمع، وعادة ما تكون هذه الفئات المستهدفة في حدود خط الفقر أو دونه، وهذه التفرقة بين المفهومين مهمة لأن الجمعيات والمؤسسات الخيرية لايمكن ان تكون بديلاً عن الدول في القيام بوظيفة الاسكان الشعبي «الميسَّر» نظراً لاختلاف الفئات الاجتماعية المستهدفة، والأهم من ذلك ان الاسكان الشعبي «الميسَّر» برنامج مكلف جداً لا يمكن ان تقوم به الا الحكومات أو المؤسسات المالية الكبرى كالبنوك أو بنوك الاسكان، وليس الجمعيات أو المؤسسات الخيرية التي مهما كانت قوة مواقفها المالية لا تستطيع النهوض بها، ومن هنا تأتي اهمية الحديث عن اصلاح وتطوير صندوق التنمية العقارية كأحد اذرعة الدولة في مجال توفير الاسكان الشعبي «الميسَّر».
بداية، هنا كلمة حق لا بد ان تُقال في حق صندوق التنمية العقارية، وتبعاً في حق وزارة المالية والوزراء الذين تعاقبوا عليها، لقد اثبت الصندوق منذ تأسيسه، وحتى الآن، حياديته في التسجيل ومنح القروض، ولم تعبث «الواسطة» في قوائمه وتقديم خدماته للمواطنين، واذا كان هناك خلاف على جدوى وفاعلية البرامج التي سنتها الدولة في مجال الرفاه الاجتماعي، فإن صندوق التنمية العقارية الذي أسسته الدولة في منتصف التسعينيات الهجرية يقف دون منازع على قائمة جميع تلك البرامج من حيث النجاح، ومدى الأثر الايجابي والارتياح الذي تركه في حياة المواطن البسيط ونفسيته واستقراره، واستفادت من برامجه وقروضه جميع الشرائح الاجتماعية بفضل الانفاق السخي عليه من الدولة، وشروطه الميسَّرة التي تكاد لا تستثني احداً، وسرعة الحصول على قروضه التي لا تتجاوز بضعة ايام في عصره الذهبي.
الآن، وقد تغيرت الصورة تماماً، فأصبح الحصول على القرض يقترض من عمر المواطن عدة سنوات، وهذا راجع لأسباب خارجة عن امكانات الصندوق وإرادة القائمين عليه، فالحالات تتزايد سنوياً بالآلاف فوق طاقته التمويلية بحكم ازدياد عدد السكان والمواطنين المحتاجين لخدمات الصندوق، والدولة توقفت لاسبابها الخاصة عن تمويله، ناهيك عن حاجة الصندوق اصلاً لضخ المزيد من الاعتمادات لمواجهة الزيادة الطبيعية والطلبات المتزايدة من المواطنين على قروضه، ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير «الصندوق» أنه تُرك لتمويله الذاتي، والمواطن الذي اقترض لا يسدد، أو لا يسدد بانتظام، الامر الذي ادى الى شل النشاط المتوقع من الصندوق، وعجزه عن تأدية رسالته الاجتماعية الكبرى كآلية من الآليات المهمة في يد الدولة في المحافظة على الطبقة الوسطى، والتخفيف من مظاهر الفقر، وتجفيف منابع السخط على خدمات الدولة، والعبث في النظام العام، حيث ثبت علمياً وعملياً مما لا يدع مجالاً للشك ان الاحياء الفقيرة والعشوائية، والمساكن المزرية والرديئة، وعدم حصول الناس على فرص واقعية لامتلاك المسكن الملائم.. ثبت ان ذلك يمثل مرتعاً خصباً للمشاكل الاجتماعية من مخدرات وبغاء، أو مأوى للارهابيين والعابثين، أو للساخطين على النظام العام.
لقد شاعت القناعة بين جميع الاوساط بان الحاجة للاسكان الشعبي «الميسَّر» تتعاظم، والناس بدأت تضيق وتتململ وتتساءل، والصندوق غير قادر على تلبية هذه الحاجة في ظل توقف تمويله من الدولة، واعتماده على التمويل الذاتي، وتزايد الحالات المتقدمة من المواطنين للاستفادة من قروضه عاماً بعد آخر، فمالعمل؟
بداية الانفراج تبدأ بضرورة العمل على اعادة ترتيب اوراق الصندوق، وفق معطيات جديدة، وابتكار آليات اكثر فاعلية للتمويل والتحصيل والبناء، وتحديد دائرة الاستفادة منه وفق اولويات الحاجة اليه، والمشاركة الاهلية والخاصة في ادارة شؤونه وتمويله.
ان اول خطوة جذرية باتجاه اصلاح الصندوق تبدأ من تحويله الى بنك وطني للاسكان، شعاره توفير الارض والقرض والسكن، ويدار بعقلية استثمارية متطورة، وبتنظيم بنكي حديث، يكون للدولة حصة كبيرة فيه والبقية تطرح اسهماً قابلة للتداول في السوق، ويمنح قروضه لمدد طويلة بحد اقصى «30» سنة، وتسدد القروض وفق شروط اقراضية شهرية ميسرة لا تتعارض مع الشريعة الاسلامية، وان يدخل البنك نفسه في عملية شراكة وتطوير وتملك للاراضي الحكومية والمخططات السكنية بدلاً من منحها مباشرة للمواطنين، واتفاق البنك مباشرة مع شركات بناء متخصصة لتشييد مشروعات اسكانية كبرى في جميع مناطق ومدن ومحافظات وقرى المملكة تتناسب وحداتها السكنية مع ظروف واحتياجات وامكانات ورغبات واذواق المواطنين من ذوي الدخول البسيطة في تلك المناطق.
هذه الصيغة المقترحة لتجديد شباب صندوق التنمية العقاري، واعادة تعريف رسالته واهدافه وآليات عمله، ليست من نسج خيال خصب انما هي شكل توفيقي من تجارب عالمية ناجحة ومربحة، وسوف يكون هذا البنك المقترح اكثر ربحية في المملكة بحكم الميل الطبيعي لافراد المجتمع السعودي للاستثمار في العقار والتملك، كما سوف يكون انجح من منافسيه الذين يكثر الحديث بينهم هذه الايام عن تأسيس شركات عقارية وتمويلية، لأن شروط الاقراض لهذا البنك الوطني سوف تكون ارخص وأيسر للمواطنين من هذه الشركات التي لا تهدف الا الى الربح السريع والمضمون، وبشروط جائرة احياناً.
لقد أثَّرت مثل هذه البنوك ايجابياً في حياة الافراد والأُسر في الدول الاخرى، وساعدت كثيراً على تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي لكثير من الشعوب والمجتمعات.. وهذا ما نحن في أشدّ الحاجة إليه في يومنا هذا.. أليس كذلك؟
(*) أمين عام مؤسسة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز لوالديه للإسكان التنموي
|