عالمنا يتنمذج في قرية واحدة، ونحن نعيش العولمة شئنا أم أبينا.. لكن من لا يدرك أو لا يعنيه مفهوم العولمة كمصطلح أو بعض ملامحها، ويقرأ ما يكتبه أغلب المثقفين العرب عنها يظن أنها شر مطلق.. لأنها تصوَّر كمرادف للإمبريالية أو كوحش خرافي! وقد سبق أن تطرقت لمواضيع حول العولمة لكن ليس عنها، وهو الذي سأحاوله هنا.
ما هي العولمة لدى غالبية مثقفينا؟ المفكر المغربي عبد الإله بالقزيز يُعرِّف العولمة بحسِّه القومي بأنها «فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات». أما المفكر السوري مطاع صفدي فهو يستوحي مصطلحاً من بقايا الحرب الباردة وينعت العولمة ب«إمبريالية المطلق»، ويشاطره في ذلك الكاتب برهان غليون واسماً العولمة بلفظ ثوري «باعتبارها الاسم الحركي للأمركة». المفكرة المصرية يمنى الخولي المسكونة بهاجس اللغة ترى في العولمة «مؤامرة لغوية»، ويزيد في مكيال المؤامرة المفكر المصري حسين أحمد أمين حين يصرح باحتفالية «العولمة هي المرحلة الأحدث والأذكى من هذه المؤامرة». وحتى المفكر البارز الرصين محمد عابد الجابري لم تسلم العولمة من تنظيره النموذجي «انها تستهدف، هي والخوصصة ربيبتها، ثلاثة كيانات: الدولة، الأمة، الوطن. وإذا نحن سحبنا هذه الكيانات الثلاثة، فماذا إذن يبقى؟» وتمضي قافلة الشتم مدلهمة، فالكاتبة اعتدال عثمان تصف العولمة بأنها «لعبة مميتة»، والمفكر محمود أمين العالم يستلهم من فوكوياما مفردته المشهورة، ويعلن بسخط بأن العولمة «النهاية النهائية للنهائيات جميعاً». فهل بعد هذه النهاية الحاسمة من أمثلة؟ وهل بعد هذا الطرح الآلي للعولمة من جدلية؟ فما ظنك بآراء التيارات المتطرفة التي ترى أن هؤلاء المعادين لا يعادون كفاية؟ وما يجمع هؤلاء المثقفين على اختلاف مشاربهم هو ارتهانهم للإيديولوجيا والارتياب «paranoia» بالآخر وبالجديد.
وبعيداً عن الأدلجة وغلوائها، دعونا نستعرض النشأة والتطور والحالة الراهنة للعولمة. تاريخيا،ً يمكن القول إن العالمية برزت كمفهوم محدود الأبعاد المكانية منذ الاكتشافات الجغرافية العظمى «القرن 15 و16» حين أصبحت فكرة تناهي العالم أو محدوديته ككرة أرضية واحدة حقيقة منجزة، مقابل ما كان يُظن بعدم تناهي العالم كأرض مسطحة لامحدودة وحضارات متباعدة ومنعزلة. فلم تعد ثمة ثقافات أو جزر معزولة وتقاربت «مواجهة أو مصالحة» الحضارات ببعضها مع اختلافاتها العرقية والثقافية واللغوية. ومن ثم فإن تمثُّل المفهوم الفلسفي للإنسانية التي تربط كافة البشر بقيم موحدة أصبح ممكناً واقعياً، بغض النظر عن درجة تحقق هذه القيم. ومع الثورة الصناعية خاصة فيما يتصل بتسهيل المواصلات والاتصالات بين الشعوب، وما حدث أثناءها من استعمار غربي واستغلال لخيرات أغلب الشعوب الأخرى وما نتج منها من تأثر هذه الشعوب بالنمط الحضاري الغربي سلباً وإيجابا. ثم ما تلا ذلك من حربين عالميتين أفنت عشرات الملايين من البشر.. وأيقظت مشاعر إنسانية عالمية وأممية اشتراكية ورأسمالية تمثَّل ذروته في إنشاء هيئة الأمم المتحدة.. ثم ما تخللها من هجرات ضخمة جداً لم تحدث من قبل، حيث بلغ عدد الذين هجروا أوطانهم الأصلية من عام 1950 إلى 1990 نحو 50 مليون نسمة.. أضف لذلك عدد السياح المتنامي حول العالم حتى بلغ عام 1999 حوالي 657 مليون سائح! كل ذلك يمكن اعتباره مقدمات طبيعية لدمج ثقافات الشعوب وتفاعلها تحت مفهوم العولمة «Globalization» أي نزوع العالم للتوحد.
إلا أن ما جعل العولمة حتمية وبنى نسيجها الداخلي هو البعد الاقتصادي، ويمكن تلمُّس ذلك خلال العقدين المنصرمين عبر الشركات المتعددة الجنسية، التي زاد نفوذها واحتكارها لحركة الاقتصاد العالمي، وترسخ أنماط العولمة مما قلَّص دور الدولة القومية ودور النقابات والمؤسسات المحلية.. فعلى سبيل المثال أصبح بعض القوانين التقليدية التي تصدرها الدول الصناعية الكبرى لحماية اقتصادها القومي عديم الفائدة أو يأتي بمردود عكسي، لأن هذه الدول تستورد قدراً متعاظماً من وارداتها التي تنتجها فروعها الأجنبية في الدول الأخرى مما يؤثر على الشركات الأمهات في الداخل!
إن أهم الحجج التي غذت الحقد المطلق ضد العولمة، الزعم بأنها مجرد أمركة أو ارتهان كامل للنمط الغربي، متناسين إسهام الأمم الأخرى في العولمة. صحيح أن العولمة تقوم بتيسير النماذج الغربية والأمريكية السلبية أكثر من غيرها، خاصة في تسليعها للأشياء غير القابلة أخلاقياً للمتاجرة.. لكن هل نكتفي بشتم العولمة قاطبة، ونتفرج بطريقة انعزالية، أم ننفتح معها طارحين نماذجنا العريقة المتفاعلة سلمياً مع الآخر؟ أليس ذلك ما تفعله الشعوب الأخرى في طريقها للتقدم؟ وهل ننسى خيرات العولمة فيما تقوم به عبر الإنترنت بتوفير آخر ما توصل إليه العلم للباحثين في شتى الأصقاع، فيتمكن الباحث في بلد ناءٍ من التواصل والإبداع لبلده، حيث تكافأت مصادر البحث بين الدول المتقدمة وغيرها.. وذلك ينطبق على توفر أخبار الأحداث العالمية اليومية عبر الفضائيات.. وكذلك على تناقل المعلومات بين الأفراد المتعارفين مهما تباعدوا في أصقاع العالم عبر الهواتف المحمولة..الخ.
وثمة حجة أخرى، تبنى على قاعدة شهد شاهد من أهلها، أساسه أن هناك في الغرب من يناهض العولمة واصطلى بنارها نتيجة افتقادها للعدالة في توزيع الثروة ومداولتها، فكيف نقبلها نحن الغرباء عليها. لكن من يناهض العولمة هناك «من نقابات ويساريين..» يرفع قضايا مشروعة تجد في توسع الشركات المتعددة الجنسية إجحافاً بخفض رواتبها عبر نقل المصانع إلى دول العالم الثالث، بينما يجدها عمال الدول المحتاجة فرصاً لرفع الدخل وتوفير الوظائف. فهل نتبنى نحن قضايا ومصالح بعض الغربيين في صدامهم مع العولمة.. وهناك من الحركات النقابية من يناهض العولمة لأنها تعطي فرصا أفضل لمنتجات دول العالم الثالث في منافستها لمنتجاتهم، كما فعلت حركة الفلاحين في فرنسا التي تطالب بالمزيد من المساعدات المالية الأوربية «المرفوضة من قبل أنظمة التجارة العالمية» لقطاعها الزراعي مما يشكل عقبة كبرى لتصدير منتجات المزارعين في أفريقيا. بل إن هناك من يناهض العولمة في الغرب لأسباب عنصرية ضد الآخر غير الغربي بزعم المحافظة على نقاء وتفوق الحضارة الغربية وعدم تشتيت هويتها عبر اشاعتها للشعوب الأخرى وعبر استقبالها للمهاجرين، كما يطرح ذلك هونتجتون واليمين المتطرف الجديد في أمريكا.
ورغم ذلك، فإنه لا يمكن إنكار أن في الغرب من يناهض العولمة ايجابياً لأسباب إنسانية، من خلال الانفتاح على أزمات الدول الفقيرة، ومعارضة ظلم أنظمة التجارة العالمية.. مثل المؤتمر الاجتماعي الأوربي الذي عقد قبل شهر في باريس تحت شعار من أجل عولمة بديلة أو مختلفة ذات بعد إنساني منفتح على العالم. وهناك من يعارض العولمة من فوق، التي تتزعمها الشركات متعددة الجنسية، طارحاً فكرة عولمة من تحت عن طريق التضامن الشعبي «جيري بريشر، تيم كوستيلو، براندان سميث»، ويشابههم من يطالب بإنشاء بنوك معرفية للجماهير «ليوتار وسيد سلامة».. الخ.
هناك مسوغات عديدة ومعقولة للحذر من العولمة، فرغم ما جلبت من منافع أنتجت أضراراً... لكن كل ذلك لا يبرر عداءنا المطلق للعولمة. فلنميز بين الجوانب السلبية للعولمة وجوانبها الايجابية كي نحصل على عولمة أكثر انسانية. فبقدر نزوع العولمة إلى التوحد العالمي الذي أفرز حالات مؤسفة بصهر كثير من الثقافات الرائعة وربما فناؤها، بقدر ما أتاحت بيئة رحبة للتنوع الثقافي عبر التعرُّف على حضارات الشعوب واحترام خصوصياتها.
|