* هل نحن اليوم مثلما يرى البعض، على بعد شاسع من مرحلة النضج الثقافي..؟! او لِنَقلْ بصيغة اخرى: هل لنا عودة قريبة إلى وعينا، بعد أن فقدناه أو غرّبناه، فغرب عنا طيلة ثلاثة عقود مضت..؟!
* لكن.. وهذا حق، فإن عقود الاضطراب هذه، لم تخل من تجليات حق كانت صادقة، برزت فيها إضاءات فكرية تنويرية، وظهرت فيها مضاءات ثقافية تحذيرية، ولكن شاء المولى جل جلاله، أن تكون الغلبة لجلجلات باطلة، وأن ترتفع أصوات كانت ومازالت، تتصف بالصراخ واللجاجة والكبرياء والغرور، ولو قدر لنا أن نصم آذاننا عن مصادر التهريج تلك، ونبتعد عن منابر «الدمغجة»، لربما ملكنا من الوقت ما يكفينا، لسماع اصوات العقل في الأمة، وكنا من خلالها وجدنا انفسنا، وسط عالم ينوء بالثوابت، لكنه يموج بالمتغيرات.
* كان كثير من الناس في اوساطنا، يتعالمون غفلاً وحمقاً وعتهاً، فيتطاولون على العلماء، وهم بذلك يتجاسرون على منكرات اعظم مما ينكرون من منكرات وحينما لم يوقفهم احد عند حدودهم، حدثتهم انفسهم الامارة بالسوء، بما هو أعظم من دور العالم في الأمة، وبما هو اعلى من دور القائد في القمة، فرأينا ما رأينا من انقسام وتشرذم، ثم تطاول خطير على مصير العباد والبلاد...!
* من تلك الأصوات العاقلة المتعقلة، التي عاداها بعضهم لشعوره بتفوقها عليه، الشيخ «محمد الغزالي»، رحمه الله، فإن في جل ما كتب وألّف، تحذير وتنوير.. تحذير من اتساع رقعة التشدد والغلو والتطرف، وتحذير من مآل المسلمين في ظل هذا التسطيح الثقافي، الذي يتخذ من الدين شعاراً، ومن مؤسسات الدولة دثاراً. ثم تنويراً ساطعاً، يكشف الاعيب المنتفعين من هذا التسطيح، ويدل على اهمية العمل، على كبح جماحهم في مهده.
* في كتابه الرائع «هموم داعية» يقول:« الرغبة في تكفير الناس، وانتقاص اقدارهم، وترويج التهم حولهم، مرض نفسي بالغ الخبث، واصحابه يتناولهم بلا ريب، الوعيد الآلهي :{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (النور:19) } النور 19، والتصاق هؤلاء المرضى بالإسلام، او تصدرهم في ميدانه، لا يغني عنهم شيئاً، فإنهم في الحقيقة غرباء عليه، او عقبات امامه، او غَبَش في مرآته.
* محمد صلى الله عليه وسلم، رقيق رحيم، وهؤلاء غلاظ قساة، ومحمد صلى الله عليه وسلم، يحض على ستر العيوب، ويأخذ بأيدي العاثرين لينهضوا من كبوتهم، وهؤلاء يكشفون العيوب، او يختلقونها ان لم توجد. ثم ينتصبون - باسم الله - قضاة يقطعون الرقاب ويستبيحون الحقوق..!
* لقد آذاني ان اجد في مجال الدعوة فتّانين من هذا النوع الهابط، اتخذوا الإسلام ستاراً لشهوات هائلة، ولو وقعت أزمَّة الامور بأيديهم، لأهلكوا الحرث والنسل.
* وقد سيطر الجهل والغرور على هذا النفر من المتدينين. انني احذر من الثقافة المسمومة التي تقدم للشباب الغض، واذكر انني بعد احتلال طائفة من الشباب للحرم المكي الشريف، قلت لرجل مسؤول: هؤلاء ضحايا فكر معوج، وتعليم مغشوش، وقد رأيت اشباهاً لهم في عواصم إسلامية كثيرة، يلقنهم الجهل والغلو، رجال لهم اسماء ولا مسميات وراءها..!
* كانت هذه واحدة من تجليات الحق، فيها صرخة تحذيرية، وفيها رؤية تنويرية، اطلقها مفكر إسلامي قبل ربع قرن تقريباً..! فهل استوعبناها في حينها، او حتى بعد حينها..؟!
* هناك الكثير من هذا القبيل، سواء كان ذلك عند المرحوم «الغزالي»، او عند غيره من المفكرين الحقيقيين، وليس مدعي التفكير، الذين هم إلى التكفير اقرب من التفكير.. ولكننا نتوقف هنا عند الشيخ الغزالي مرة اخرى.. ماذا قال بعد..؟
* في كتابه التنويري المدهش، «دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين»، قال:« ان المتدينين عندما يهن إيمانهم، ويذهب رشدهم، يرتكبون واحداً من ثلاثة: إما لأن يعطلوا النصوص، ويميتوا امر الله، وهذا عصيان جريء. وإما أن ينقلب ترتيب التكاليف في اذهانهم، فيقدموا الصغير، ويؤخروا الكبير، وتضطرب اوزان الامور، فتراهم يتجاهلون العظائم، ويتقعرون في التوافه، كهذا الذي سأل الحسن البصري عن الصلاة في قميص به دم البعوض..! فقال له الحسن: ممن أنت..؟ قال: من العراق. قال: تسألون عن دم البعوض، وتستبيحون دم ابن بنت رسول الله..؟!
* وقد صور ابو الطيب المتنبي هذا الاعوجاج النفسي في فهم الدين بقوله:
أغاية الدين.. أن تحفُوا شواربكم..؟
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم..!
* والامر الثالث، ان يستحسنوا ويستقبحوا من عند انفسهم لا من عند الله، و يختلفوا في شؤون الدين واصوله وفروعه، اموراً تعمل في الدين عمل السرطان في الجسم، ما تزال تنمو حتى تجهز عليه.
* إن التساهل مع المدعين والمبتدعين، والتهاون مع جهالاتهم وعدوانهم على الدين، ثم التعظيم من شأن كل من تظاهر بالتقوى والصلاح وهو غير ذلك، وهو يضمر في قرارة نفسه شراً بأهل الدين والدنيا، فيظهر احتقاره للحق، واحتكاره للحقيقة دون بقية الخلق، كل ذلك، كان ومازال، من اسباب الازمة التي تعصف بنا اليوم.. وهذا امر، لا يحتاج إلى عناء تفكير.
- اين احفاد الخوارج من رحمة وسماحة نبي هذه الامة، عليه صلوات الله وسلامه، جاء في موعظة للإمام الاوزاعي يعظ بها المنصور قوله:« كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة - سعفة طويلة - يَستاك بها، ويردع عنه المنافقين، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، ما هذه الجريدة بيدك..؟ اقذفها لا تملأ قلوبهم رعباً»..! هذه جريدة سعف، يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتخلي عنها، حتى لا يفزع بها المنافقين..! فكيف بمن يسفك دماء غير المنافقين من المسلمين، ويشقق ابشارهم، وينهب اموالهم، ويخرب ديارهم، ويقتل نساءهم، وييتم اطفالهم..؟!
* ان عصرنا هذا، مبتلى بمن في قلوبهم امراض كثيرة، وليس مرضاً واحداً، منهم من يجعل من خطأ ارتكبه غيره من الناس، مدَّاً لغروره واحتقار غيره، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لمن بلغ عن معصية عاص:« هلا سترته بثوبك»..؟! اما بعضهم في هذا الزمان، فانه يجد في المعصية، فرصة للتشفي من العاصي، ويشعر بفرح خبيث لسقوطه وهلاكه، وكأن بينه وبينه ثأراً قديماً..!
* ان المصابين بأمراض القلوب كثر، وهم يمتون بصلة «قرابة مرضية»، الى «ذو الخويصرة»، ذلك الذي شكل اول ظاهرة خروج في الأمة الإسلامية، عندما عاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قسمته لمال جاءه، جاء في الحديث، قال رجل: كنا نحن احق بهذا المال من هؤلاء، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم قوله فقال: الا تأمنونني وانا امين من في السماء.. يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً..؟! فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار. فقال عليه الصلاة والسلام: ويلك، أو لسْتُ أحق أهل الارض ان اتقي الله..؟ ثم ولَّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه..؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه: لا.. لعله ان يكون يصلي..!!
* ان يكون يصلي..!! طاعة في الله، تعصمه رغم تطاوله على النبي المرسل..!
* ما أحلمك وأرحمك يا رسول الله محمد.
fax:027361552
|