ضحكت، وشر البلية ما يضحك، وانا أقرأ لبعض المحللين العرب تبريرهم استسلام «صدام» المذل للقوات الأمريكية، بالقول أن «قائدهم الهمام» لم يستسلم، وحاشاه أن يفعل ذلك، وإنما كان ضحية «مؤامرة» دنيئة قذرة قام بها الأمريكيون وأعوانهم الخونة، أدت إلى تخديره، والقبض عليه، ثم تصويره كمستسلم ذليل، وهم بادعاءاتهم تلك يحاولون التهرب من مواجهة حقيقة «جبن» معشوقهم «البطل» الذي قصف إسرائيل بالصواريخ، وأقض مضاجع الأمريكيين، ووعدهم بتحرير القدس من براثن الاحتلال.
غير أنهم في الحقيقة صعقوا وهم يرون بطلهم «المزيف»، وقائد المقاومة العراقية المباركة، التي ستعيد تجربة الفيتناميين مع الأمريكيين كما كانوا يحلمون، فأراً ذليلاً خنوعاً قابعاً في جحر، يأبى إلا أن يتشبث بالحياة، أي حياة، حتى وإن كان الثمن أن يبدو أمام العالم بهذا المظهر المخزي، وهذه النهاية التي يندى لها جبين كل حر، ناهيك عن رئيس دولة. أما نظرية المؤامرة فهي سلاح العاجزين، وملاذ المهزومين، وتبرير من لا مبرر له.
الجُحر الذي أخرجه الأمريكيون منه، وهو بهذا المظهر الأشعث الأغبر، كان صورة كاريكاتيرية غاية في الدلالة، يعجز عن تخيلها أكبر رسامي الكاريكاتير في العالم، ليرسمها لنا الواقع، وتصورها لنا الحقيقة، وتضعها أمامنا في واحدة من نوادر تاريخنا المعاصر.
صدام، قبل الأمريكيين، كان يُزوّر نفسه، ويتلاعب بمآسينا، ويوظف قضايانا المصيرية لخدمة شخصه، وديكتاتوريته، ليمرر تسلطه على العراق والعراقيين، فلا يجد من بعض السذج والدهماء والحالمين العرب إلا التصفيق والهتاف، والرهان على أنه «صلاح الدين» الجديد، صلاحُ دينِ عصرنا، وقائد فيالق التحرير التي ستشدُّ ركابها إلى الأقصى قريباً.. وصدام بعد الأمريكيين ظهر على حقيقته، وحقيقة كل جبار وظالم وعُتلٍّ مُعتدٍ أثيم، مجرد فأر يريد أن يعيش حتى ولو في جحر لا يكاد أن يتسع لأحد سواه.. وأكاد أجزم أن تجربة صدام لو مرت على كل أباطرة الديكتاتوريين في العالم فلن يتصرفوا، وهم يرون مصيرهم المحتوم يحث خطاه قادماً إليهم، إلا كما تصرف صدام.
الحجاج بن يوسف، الذي كان صدام نسخة عصرية منه، كان يُضربُ به المثل في الجبن والخوف والذل. عرف ذلك عنه معاصروه، وتداول الرواة أخبار خوفه وجبنه وحرصه على الحياة، ففيه يقول الشاعر:
هلا خرجتَ إلى غزالة في الوغى
أم كان قلبك في جناحي طائر
|
وهكذا هم العتاة الظلمة دائماً، يتدرعون بحرسهم، ويتحصنون بعساكرهم، ويُمثلون الشجاعة، وهم أبعد ما يكونون عنها. يقول عبدالله بن المقفع صاحب «كليلة ودمنة» يصف الحاكم العربي منذ عصره: «راكب السلطة كراكب أسَدٍ يُخيف الناسَ به، وهو أشد الناس خوفاً منه».
فالحاكم الآمن هو فقط الحاكم العادل. يحدثنا التاريخ عن ذلك الرومي الذي أتى المدينة للقاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأل عنه فأخبروه انه خارجها، فراح يبحث عن عمر فوجده نائماً في ظل شجرة بلا حرّاس ولا حجّاب ولا مرافقين، واطلق عبارته الخالدة خلود الدهر: «عدلت، فأمنت، فنمت».
ولو أدرك صدام حقائق الحياة، وسنن الله في كونه، بل لو قرأ التاريخ، لعرف ان العدل والقسط بين الناس، هو درع حياة الحكام الحقيقي، الذي سيحميه ويحمي أهله وذويه من بعده. وليس التسلط على الناس، وقتلهم، وترويعهم، وارهابهم، واحتكار القرار، ونهب الثروات، والاتكاء في امنه على الحراس المدججين بالسلاح، ودوائر المخابرات والجواسيس، واقبية التعذيب، والمقابر الجماعية.
فهاهي ممارساته تلك بدلاً من ان تحميه، اصبحت اليوم هي الادلة الجنائية ضده، لتلحقه إمّا بابنيه عدي وقصي وحفيده مصطفى، او تبقيه إن نجا من الموت - معتقلاً ذليلاً رهن السجون، حتى يُسلم روحه إلى بارئها.
|