كتب العقاد في عدد المساء الاسبوعي عام 1966م يقول في الرد على أدباء وشعراء الشباب الذين هاجموه لأنه هاجم مذهبهم الجديد في الشعر.
ان الشعر الحديث (الحر) كافة ليس شعرا على الاطلاق اذ تنقصه الموسيقى والوزن، والشعر وزن قبل كل شيء واستمر يقول:
ان الادباء وشبابهم يعيشون في عصري أنا، عصر العقاد. لقد كان العقاد- طول حياته- يحب العظمة والبطولة، ويشك في الذين ينتقصون مواقف الابطال، ويسفهون أحلامهم ويحيطون بواعثهم بالريب.
وكان هو مثال الاعتداد بالنفس، والشموخ بالأنف على الرغم من الاحداث والأعاصير وقد كتب عن العبقريات لأنه كان يحب البطولة والعبقرية ويمجدهما، وكان في العقاد حدس الشاعر ورهافة حسه، ودقة ملاحظة العالم، وقدرته على التحليل والتعليل وعمق الفيلسوف، ونفاذ نظراته، وسعة احاطته. وكان يلتزم القصد في حياته، ويتحرى الاعتدال، فيعيش في كتبه ومطالعاته، ولكنه مع ذلك لا ينسى نصيبه من الدنيا، ولكن في غير اسراف، وكان حريصا على حياته وصحته ودقته ولم يكن بخيلا بماله.
وكانت ندوة العقاد احدى الندوات الفكرية التي تزدان بها القاهرة.. وكان يقصدها مختلف الادباء والكتاب والنقاد والشعراء وكثير من أساتذة الجامعات وشبابها..
وكنت ترى في ندوته السعودي إلى جانب اللبناني والسوري والعراقي واليمني والسوداني والمغربي على حد سواء.
وفي يوم من أيام الجمعة - موعد الندوة الاسبوعي- كنت والاستاذ الاديب السعودي الكبير أحمد عبدالغفور عطار نحو الساعة التاسعة صباحا نأخذ طريقنا إلى ندوة العقاد في منزله بمصر الجديدة وكان ذلك في شهر مايو 1954م، وجلسنا بجواره، العقاد في الوسط والعطار بجواره من جانب، وأنا بجواره من جانب آخر.
وامتلأت الحجرة بالوافدين إلى الندوة، وبدأ العقاد يتكلم وبدأ الحضور يستمعون، وهو يسلم ويناقش بعض الافكار المثارة، ويجيب عن الاسئلة التي توجه إليه.
وقال العقاد في جواب عن سؤال وجه إليه عن طه حسين: ان طه يشك في كل شيء، حتى بدا لنا أنه يشك في نفسه، وحتى ليكاد يشك في أن له ابنا اسمه مؤنس وبنتا اسمها.. ومن يدري فقد يجيء يوم يشك الناس كذلك في طه حسين: هل هو شخص حقيقي أو أسطوري كما شكك هو في مجنون ليلى وغيره.
وقال أحد أساتذة الكليات: يا أستاذنا ان كلية.. تدعوك لافتتاح موسم محاضراتها بمحاضرة، فاعتذر العقاد اعتذارا رقيقا، وكان لا يحضر مواسم محاضرات الجامعات، ولا يشترك فيها الا في موسم محاضرات جامعة الازهر وحدها، اعتزازا منه بالازهر الوجه المضيء للثقافة الإسلامية والمعبر الحقيقي عن الشعب المصري وشعوب الامة الإسلامية في وجه الاستعمار والغزو الحضاري والثقافي الغربي... وهنا استرسل الاستاذ في توجيه رجائه للعقاد.
والتفت إلى العطار صديق العقاد في المنزل والندوة والمكتبة والمطبعة والصحيفة والكتاب، العطار الذي قدم بعض كتب العقاد: الإسلام والشيوعية، والذي قدم العقاد كتبا له، من مثل مقدمة الصحاح، ومقدمة العقاد لهذا الكتاب تدل على مدى الصلة العميقة بين العطار وبينه، بل كان العطار يزور العقاد في غير مواعيد الندوة، والعقاد يزوره في منزله كذلك كثيرا حتى لقد رأيته في يوم من الأيام خارجا من زيارته له في الشقة التي كان يسكنها، وكان العطار كثيرا ما يدعوه إلى أكلة حجازية يصنعها للعقاد ويشترك مع زوجته الفاضلة في صنعها بيديه.
التفت حقا إلى العطار والتفت مع ذلك إلى وجه العقاد.
هذا الكاتب العنيد، المحب للبطولة والتمجيد، والاعتزاز بالنفس.
ان كلام الاستاذ الجامعي كان في رأيي يسر العقاد أن يسمعه، العقاد الذي لم ينل شهادة جامعية، يسره أن ترحب به الجامعات وكلياتها في أروقتها، كما كنت أتصور ذلك، وليس كلام الاستاذ الجامعي هذا إلا لونا من ألوان النفاق، التي كنت اتصور العقاد يخدع به.
يعبر عما جاش بنفسي، ولكنه يعبر في غضب شديد:
يا أستاذ العبادة والتمجيد والتقديس لله وحده، أستغفر الله انه لا يليق بك أن تسمعنا مثل هذا الكلام. وفرحت بما قال العطار فرحا من أعماق النفس، لاني وقد كنت عزمت على الرد كنت في شك من أن يستطيع العطار أن يقول ذلك لانه صديق للعقاد، وكنت أظن انه لا يريد احراجه في موقف كهذا امام جمهور ندوته.
واسترسل العطار يقول في عنف وغضب: اننا نحب العقاد، ولكننا نحب الله عز وجل قبل كل شيء وأدرت طرفي في وجه العقاد لأرى موقع كلام العطار من نفسه: أهو غاضب لكلام العطار؟ أم هو بين بين؟ وسرعان ما وجدت العقاد يبتسم وهو فرح من أعماق نفسه وكأنه يعلم بذلك موافقته على ما قاله العطار.
وهنا أدركت أن العقاد وان كان يحب البطولة ويعتز بها ويحب لحياته أن تكون صورة لها، وقد عاش يناضل في كبرياء كل من حاول الانتقاص من كرامته أو مكانته في المجتمع كائنا ما كان.. الا ان للبطولة عنده موازين بشرية دقيقة، يحب ان يراها في أشخاص ابطاله وفي شخصه هو والبطولة عنده كذلك يجب أن تكون بطولة حقيقية لا بطولة زائفة ولذلك فقد عاش حياته يحارب زائف البطولات والابطال، ثم ان للبطولة عنده حدوداً يجب أن لا تتجاوزها والا كانت جنونا لا عبقرية ولا بطولة.
وزاد ذلك من مكانة العقاد في نفسي، العقاد الذي كنت أظنه يمثل بطولة زائفة، ويسعى لمجد شخصي، وكان العقاد يبدو للرائي أحيانا كذلك يبدو انه يريد أن ينصب لنفسه كرسيا يضعه فوق رؤوس الناس ليجلس عليه، وكنت أظن أن العقاد، الذي غلبت عليه فلسفة المتنبي ونيتشه يكاد يعتنق بيت المتنبي:
لو استطعت ركبت الناس كلهمو
إلى فناء ابن عبدالله بعرانا
وأبياته المشهورة الأخرى:
أي محل أرتقى
أي عظيم أتقى
ولك ما قد خلق
الله وما لم يخلق
محتقر في همتي
كشعرة في مفرقي
|
ويومئذ أدركت أن العقاد لا يحب البطولات الزائفة، ولا يرى من العبقرية الا وجهها الحقيقي الصادق المعبر عن جهد انساني رفيع وقيمة بشرية عالية، وبناء فكري متميز في حقل الحياة والمعرفة والثقافة.
|