شدني كغيري من المهتمين بالشأن الوطني المشروع الحضاري الرائع مركز الحوار الوطني الذي وافق عليه مؤخراً مجلس الوزراء برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حفظه الله الذي يعكس مستوى وعي القيادة لدينا بأهمية وضرورة الحوار بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد على كافة مستوياته وأطيافه الفكرية والمذهبية لما لهذا الحوار من أهمية في كسر الحواجز النفسية والقدرة على معرفة الآخر وفهمه عن قرب وبشكل مباشر مما سيبدد كثيرا من الشكوك والظنون والمخاوف التي تحيط بهذه العلاقة أو ربما تغير أو تحسن من الصورة السلبية التي كونها كل طرف نحو أخيه، لتحقيق المزيد من التفاهم والتلاحم بين فئات المجتمع المختلفة.
والحوار أو فن الحوار هو أسلوب عقلاني وبديل حضاري لاسلوب العنف والقوة والسبيل الامثل لتغيير الاتجاهات وحل المشكلات بين الاطراف المختلفة او مع أصحاب الفكر والسلوك المختلف بعيدا عن العنف إذا توفرت له الشروط اللازمة، وهو من جهة أخرى اقرار بحق الآخر في الاجتهاد أو الاختلاف وإلا فما الحاجة إذن للحوار!!
وقد اتبع هذا المنهج الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام حيث حاور المشركين والعاصين ولم يعنفهم كما في قصص كثيرة معروفة مثل الرجل الذي بال في المسجد والآخر الذي يستأذنه في الزنا... الخ، لكن ما الذي آل بمستوى الحوار في ثقافتنا العربية الى حالات مرضية مثل حالة ما يسمى بحوار الطرشان وحوار الاتجاه الاحادي.. واتفقنا على ألا نتفق!
التنافس والصراع
إن التنافس والصراع من الحقائق الاجتماعية التي يخرج بها كل قارئ للتاريخ الانساني كأسباب مهمة ومحركة لكثير من الاحداث والوقائع التاريخية على مر العصور، بل وتكاد تكون من بين أهم السمات التي تطبع العلاقات بين الافراد والجماعات إما بهدف تحقيق مكاسب مادية واجتماعية وإما للمحافظة عليها، ويسري ذلك غالبا على مختلف الوحدات الاجتماعية في المجتمع، ومن هنا تأتي أهمية الحوار في الحيلولة دون تفجر الصراع في المجتمع.
ولدينا في شريعتنا الغراء ما يؤسس في مجتمعنا لقيام حوار هادف وبناء كقوله تعالى: {$ّجّادٌلًهٍم بٌالَّتٌي هٌيّ أّحًسّنٍ} وقوله: {فّقٍولا لّهٍ قّوًلاْ لَّيٌَنْا} ولدينا ما يصل بمجتمعنا الى أعلى مستويات الاستقرار والتضامن الاجتماعي كما في قوله تعالى:{إنَّمّا پًمٍؤًمٌنٍونّ إخًوّةِ} وقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره» وقوله: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه».
فهي توجيهات تشكل قواعد سلوكية ومبادئ حقوق إنسان ربانية تؤطر علاقاتنا الانسانية وسلوكنا الاجتماعي تجاه بعضنا البعض.
التشخيص نصف العلاج
وللحوار أسس ومبادئ حفلت بها أدبيات علم التفاوض ذو الصلة الوثيقة بموضوعنا وهو من العلوم الحيوية الحديثة المستخدمة كأسلوب لحل الصراعات في المجتمع ووسيلة مهمة لزيادة مستوى التفاهم والتقارب بين أبناء الثقافة الواحدة أو مع الثقافات الأخرى، ولعل فيما تبقى ان تساهم هذه الافكار في معرفة ظروف وأسباب تدني مستوى الحوار ومدى شيوع أو انعدام ثقافة التفاوض في مجتمعاتنا، فالتشخيص نصف العلاج.
يعرف ناجي معلا 1992 التفاوض على انه حوار أو اتصال بين طرفين أو أكثر حول موضوع أو أكثر في إطار وجود مصلحة مشتركة وأهداف محددة وأولويات وبدائل لكل طرف بهدف الوصول الى اتفاق يحقق مصالح الطرفين.
كذلك هو صيغة لعلاقة تفاعلية وتبادلية بين الاطراف المتفاوضة التي تتنافس ضمنا أو علنا فيما بينها على أوضاع وترتيبات مستقبلية مفضلة لكل واحد منهم، ومع ذلك فإن كل طرف يدرك أن صيغة التفاوض تتطلب منه بعض المرونة التي تعطي للعملية التفاوضة زخم الاستمرارية وهذا يفرض على الاطراف في بعض الحالات التضحية بالطموحات نزولاً الى الاجماع والتعاون.
أما عن اسباب حالات اللاتفاوض في ثقافتنا العربية ووصول الحوار الى طريق مسدود فقد حددها (حسن وجيه 1995) بعدد من الاسباب.
- فقدان أساليب ومهارات التفاوض.
- لجوء بعض الاطراف الى أسلوب القوة لفرض أهدافه وأجندته.
- اعتقاد بعض الاطراف بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة.
- مثالية بعض الاطراف وبعده عن الواقع وتعقيداته وتشابكاته.
- عدم وجود قنوات للحوار أو إطار ومناخ ملائم للتفاوض.
وكما ان للحوار أسباباً مانعة، هناك ايضا شروط ضرورية للدخول في هذه العملية تمثل قواسم مشتركة بين الاطراف تضمن لها التعاون والاستمرارية لبلوغ الهدف وهي:
- أن تدرك الاطراف ان الوضعية الراهنة غير مقبولة وانه توجد نية استعداد حقيقي لدى كل طرف لانهائها.
- ان يدرك كل طرف عجزه عن حل المشكلة منفرداً أي ان يشترك الطرف الآخر في تعيين وصياغة الحلول.
- ان مساهمة الخصم أو الطرف الآخر مرهونة بالارباح أو الفوائد التي يجنيها من العملية التفاوضية أو الحوارية.
كل ما ذكرته ينطبق على أطراف الحوار الهادئ المتزن بعيداً عن الارهاب والعنف اللذين لا ينفع مع أصحابهما غير القوة والردع.
|