الأخلاق هي السلوك المثالي للإنسان، أو الوحدات الأولية في تركيبة الطبيعة الإنسانية (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، أخلاق الصدق والوفاء بالعهود واستيفاء الحقوق (حلف الفضول)، بينما الأخلاقيات هي مجموعة الممارسات الاجتماعية التي قد لا تكون بالضرورة شريفة في المنظور الإنساني العام للأخلاق، وهي قد تعتبر علامات يختص بها علم الظواهر، وتخضع للقياس والعرف والغلبة، فنجد في مجتمعاتنا العربية حدوداً غير واضحة بين ما يطلق عليه الأخلاقيات المحمودة، وبين معيار الأخلاقيات المذمومة، فمثلاً يصعب قياس الفرق بوضوح بين الكرم والتبذير، وتضيع الحدود بين صفات الجبن والشجاعة والتهور، وتختفي تماماً عند محاولة رصد التباين بين خُلق الصراحة وصفة الوقاحة، ..، كما تزدوج دلالاتها وعلاقاتها في المجتمع الذي تحكمه أعراف أخلاقية مجردة، فتنتشر مثلا عادة الرشوة تحت مسميات مثل المكافأة والحافز، وتتفشى العنصرية والإقليمية من أجل صلة الرحم وذوي القربى، لكن تلك الأخلاقيات المزدوجة المفاهيم تأخذ منحنى مختلفاً في مجتمع القانون، فتختلف معاييرها، وتضعف سلطاتها الاجتماعية والسياسية.
وقد أيقنت بعد متابعتي لتغطية الإعلام العربي لاعتقال الرئيس السابق صدام حسين، أن الصورة ما زالت في منتهى الغموض في مفردات الثقافة العربية حين الحديث عن الخطوط الفاصلة بين البطولة أو الجريمة، فذلك الإنسان الذي اعتقل في بيت عنكبوت تحت سطح الأرض ظهر على شاشات الإعلام العالمية في صورة المجرم والقاتل وصاحب المقابر الجماعية والمطلوب للعدالة، بينما كان لسنين خلت في نفس ذلك الإعلام.. البطل الشجاع وحامي البوابة الشرقية، وهو ما قد يساعد على كشف تفاصيل تلك الصورة الضبابية التي عشنا أحداثها خلال العقدين الماضيين، وقد تكون بمثابة الدلالة الأكيدة على ان حكم معايير الأخلاقيات والظواهر المتعارف عليها في المجتمع العربي أحد أهم العقبات في سبيل تطوره نحو مجتمع العدالة والقيم الحضارية والقانونية.. ولعلنا غدونا في أمسّ الحاجة لثورة ثقافية ضد حكم «الأخلاقيات» المتعارف عليها، فلا يمكن ان نقبل أن تكون البطولة والجريمة وجهين لشخصية واحدة وسلوكيات محددة، ولا يمكن ان نقدم الكرم والإسراف على أنهما نقيضان، بينما الواقع يدل انهما تعبيران مختلفان لحقيقة واحدة، أو ان البخل والاقتصاد يتنافران بينما لهما دلالات متشابهة، كذلك من الصعب ان نجزم ان صفة العطاء بلا حدود ليست أحد وجوه الفساد، وان الغلبة والرغبة في السيطرة في ثقافتنا ليس لها علاقة بأهم جذور الاستبداد في المجتمعات العربية.
ما حدث من استسلام للرئيس السابق، دل بوضوح ان المستبد أكثر الناس حرصاً على البقاء حياً، وان جبروته وسلطته وقبضته الحديدية ليست إلا وسائل يستعملها ضد الآخرين مهما كانت درجة قرابتهم أو بعدهم عنه، فهو يداوي شكوكه، ويدافع عن جرائمه (وأخلاقياته) من خلال ميكانيزم الاستبداد، فالمستبد يحرص على الحكم المطلق من خلال عرف الاخلاق المبني على هرم القوة الذي يعتلي قمته منفرداً، ثم يعمل من أجل قتل روح القانون في الإنسان، لذا تستغل تلك الأخلاقيات في السياسة العربية على إخراجه في صورة البطولة بدلاً من حقيقة الجريمة، وقد تفعل النقيض تماما إذا انقلب هرم (القوة) فالرئيس المستسلم مثلاً.. كان بطلاً (شريفاً) يوماً ما ثم أصبح مجرماً مطلوباً للعدالة الإنسانية بين عشية وضحاها.. هذا وقد أكدت نقابة الإشراف بعد (القبض) عليه بطلان نسبه (الشريف)!
وعادة تهيمن ثقافة الاستبداد والطغيان تحت شعار الحفاظ على مكارم «الأخلاقيات» السلطوية، لذا ينتج نظام الاستبداد المخبرين والوشاة والرشاة والجلادين والضحايا، ويصبح المجتمع بسبب سلطتها محكمة كبرى قضاتها الحزم والقوة والمعروف والمروءة والعفو والثقة والولاء، والقضايا التي تنظر فيها الغدر والخيانة والكفر والعمالة، بينما يلغي مجتمع القانون سلطة الأخلاق ذات الوجوه المتعددة، ويرسم حدوداً فاصلة لا غبار عليها بين الجريمة والبطولة، وبين التهور والشجاعة، وبين الفساد والولاء للقبيلة أو الطائفة أو الإقليم.
إن استبداد قبضة الأخلاقيات المتعارف عليها وغير المحمية بقانون أو دستور، يزيد من درجة العنف المتبادل ويرفع من استغلال تلك الأسلحة المعنوية، فيصبح مثلاً الالتزام بها هو معيار التميُّز والنجاح والتقدم في الحياة العملية، فتسقط معايير المهنية والابتكار والإبداع، وتحكم تلك الأخلاقيات عندما تهيمن الحركات السياسية، فتنشأ في الظلام نقائضها ويتم في الخفاء تداول أخلاقيات مضادة لها في المجتمع، وعند استشرائها، يصعب تماماً التخلص من تأثيراتها، فتحدث الفوضى، ويتنافر الأفراد وتتضاد مصالحهم ومنافعهم وولاؤهم، وبالتأكيد يسهل استبدادها في الظل تحت غياب الحماية القانونية، وهو ما يهيئ لها الجو الملائم لتفشيها وانتشار سمومها في المجتمع، مما يدفع أضداداً جدداً للعمل من جديد على خلق أجواء أخلاقية مناهضة لذلك المد (الأخلاقي) المسيطر على المؤسسة أو المجتمع أو الوطن، وهكذا دواليك.
قال الكواكبي قبل مائة عام: إن «الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها، فيجعل الإنسان يكفر بنعم مولاه، لأنه لم يملكها حق الملك ليحمده عليها حق الحمد، ويجعله حاقداً على قومه، لأنهم عون على بلاء الاستبداد عليه، وفاقداً حب وطنه، لأنه غير آمن على الاستقرار فيه ويود لو انتقل منه، وضعيف الحب لعائلته لأنه ليس مطمئناً على دوام علاقته معها، ومختل الثقة بصداقة أحبابه لأنه يعلم أنهم مثله لايملكون التكافؤ، وقد يضطرون لإضرار صديقهم بل وقتله وهم باكون. أسير الاستبداد لايملك شيئاً ليحرص على حفظه، لأنه لايملك مالاً غير معرض للسلب، ولا شرفاً غير معرض للإهانة...
وقال إن أقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان، وأنه يعين الأشرار على إجراء غيِّ نفوسهم آمنين من كل تبعة، ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح، لأن أكثر أعمال الأشرار تبقى مستورة، يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من الشهادة على ذي شر، وعقبى ذكر الفاجر بما فيه، ولهذا شاعت بين الأسراء قواعد كثيرة باطلة، كقولهم: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وقولهم: البلاء موكول بالمنطق.
ويضيف الشيخ الكواكبي قد يصل فعل الاستبداد بالأمة حداً يحوّل ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفل، بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور، وإذا ألزمت بالحرية تشقى وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أطلق سراحها.
هذا القول ربما يفسر سلوك تلك الجماعات التي خرجت تهتف بحياة الزعيم الذي أطلق الرصاص عليها في كل اتجاه، ولم يسلم منه حتى أقرب الناس إليه، وستكون حال العراق أكثر بؤساً وظلاماً، إذا كان هؤلاء الذين يهتفون بحياته، هم من يرفع درجة شدة المقاومة ضد المحتل... ولنا في هذا الحال ان نتساءل كيف ستتحقق الدولة المدنية المتحضرة في مجتمع تحكمه معايير أخلاقية متذبذبة ومتضادة، وتختفي في ثقافة مقاومته المبادئ الضرورية في مرحلة بناء دولة القانون والدستور.
يُذكر ان مالك بن نبي قال: إن بعض الشعوب تختزن في داخلها قابلية الاستعمار.. ولكن ما يحدث ان صحت أنباؤه، سيعيد ترتيب معاني تلك العبارة من جديد، لتصبح كالتالي: إن بعض الشعوب تختزن في داخلها قابلية الاستبداد!
|