كنتُ أعمل في مؤسسة ذات مسؤولية حساسة، وكنت في عمل فيها له وجاهته الفعالة، وكنت طيب القلب بجانب فهمي ووعي وكنت ذا طموح أتصل بهذا وذاك، لستُ أعلم أبداً بسبب طيبتي أو غبائي أن المؤسسة فيها أحزاب مصلحية (شدَّ لي وأقطع لك) هكذا في غضون سبعة الأعوام من (عمري الوظيفي) الممتد قرابة سبعة عشر عاما أحسستُ بنوع تضييق علي ومضايقة لم تتبين إلا بعد نظر طويل وسؤال أهل الدراية الذين توجستُ منهم النزاهة، والدين، فتبين لي وشاية بل وشايات شفهية ومكتوبة قواها طيبة قلبي واتصالاتي الأمر الذي جعلني أكره العمل المبني على المصلحة فقط تراجعت حتى تقاعدت في سن (63) فلما كنت خارج العمل تبين لي أن المؤسسة بُنيت على (المصلحة) مما قلقل مسيرتها حقا، قلت يوما لمؤسسها:
* إنتخب الشرفاء.
* ماذا.. ماذا..؟!!
* هو ذاك.
* كلنا شرفاء.
* نعم لكن الذين ينشدون ذات الولاء المتكئ على العدل والأمن.
* ما تقول؟!!
* هو ما تسمع.
* كل هذا موجود..
* كلا..
* أنت شخصياً بين خوف وحذر مهما زعمت علمك بكل ما حولك عن الناس، العمل، القليل الكثير، الصغير الكبير، العدو الصديق.
* ما هذا؟!!
* هو ما تُنصت إليه.
* الدين مع الشرف مع العقل يولد هذا: النزاهة/ والصدق والأداء، وإخلاص البذل حسه ومعناه.
* نعم نعم، هذا كله موجود.
* قد يكون في ذهنك فقط، أو أنك تدري حقا صحة ما أقول وتتغافل عنه قصراً لسبب ما أو أسباب لكنه (قاصمة الظهر).
* كيف لم تبين لي هذا حين كنت تعمل في (مكان كذا).
* كنت لا أجسر لأنني كنت متهماً لديكم.
* أبداً.. ابداً.
* بلى. بلى.
لكن الآن خذها مني صادقة صريحة (والله ما خنت والله ما خنت والله ما خنت).
* لست محل تهمة يا (.....).
* بلى محلها في ظنك مما بنيته تجاهي من (ظن وظن) حتى سرى مع الأيام إلى شيء مؤكد ولو 90%.
لكني إنسان ضعيف وان كان لي سمعة وحضور لكنني أزفها إليك فخذها (اللهم إن كنتم لم تنصفوني. ولم تعدلوا معي فسلط الله عليكم كل نائمة).
* عدلت.. عدلت بقولك أمامي.
(إن كنتم لم تنصفوني ولم تعدلوا معي).
* دعك من هذا (فالله بيننا).
أذكر يا شيخ صالح أنه قبل مدة سألني هذا الرجل المهم قال:
هم يتصلون بك؟
يقصد أناساً لا يريدهم أبداً وببراءة وبحكم كوني مثقفاً يتصل بي من أعرف ومن لم أعرف،
قلت: نعم.
ولم أدر أنه بنى على هذا
ما بنى فضرني ولم ينصرني
سؤالي فقط ما هو: الإقرار؟
وإلا فإني قد اتضح من عرضي كل ما أريد إيصاله إليك
فقط (ما هو الإقرار؟)
ح. م. م. م.. الكويت
الاقرار كما في لسان العرب الإثبات تقول يقر قراراً إذا ثبت وشرعا الاخبار عن حق أو الاعتراف به قال تعالى: {وّإذً أّخّذّ اللَّهٍ مٌيثّاقّ النَّبٌيٌَينّ}.. إلى قوله: {أّأّقًرّرًتٍمً وّأّخّذًتٍمً عّلّى" ذّلٌكٍمً إصًرٌي قّالٍوا أّقًرّرًنّا}.
وفي السنة إقرار ماعز والغامدية رضي الله عنهما وقد ثبت في حقهما تنفيذ حكم الشرع على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت وقد اجمع أهل العلم على صحة الاقرار ودل على الأخذ به العقل أصلاً ولا راد لهذا. فإذا عرفنا هذا فهل كل إقرار يؤاخذ به صاحبه وهذا دون ريب من كمال هذه الشريعة فإن الشريعة قد دلت على ان الإقرار لابد أن يكون من عاقل مميز يعقل قوله ويميزه فلا مدخل على إقرار بحيث يرد لجنون ونحوه. ومن هذا يعلم أن إقرار زائل العقل غير معتبر شرعا فلا يؤخذ به وقد لاحظت الشريعة أن من أقر فاقداً لعقله لأي سبب كنوم أو إعفاء أو شرب دواء قوي التأثير على الاعصاب ومناطق الاحساس أو شرب خمرا أو فقد عقله بسبب جنون حدث له أو صدمة نفسية حاصلة فإن إقراره لا يعتبر إقرارا شرعياً يؤخذ به عليه لأنه في حال قد رفع عنه التكليف بسببه فلم يعد يملك لنفسه شيئاً. ولاشك ان هذه أمور يدركها كل ناظر للقضية المنظورة امامه والماثل لها متهماً بفعل ممنوع يؤخذ به والأمر هذا جدير جدا ان ينظر بتوسع توسعا عاما يدخل فيه علم النفس الإسلامي وانقداح عقل الحاكم وبديهته فلا ظلم يقع على من لم يدن إلا بتهمة أو إقرار ليس يعتبر اصلا ليؤاخذ بالحكم هكذا، قلت بعد هذا لو أن هذا المقر أعاد إقراره بعد زوال المانع فإنه يؤاخذ به لأن هذا من تمام العدل فالمتهم يكون الحكم له كما يكون عليه. قلت وقولي أو شرب خمرا فنعني به كل مسكر ولو لم يكن خمراً، فإن كل ما يسبب فقدان العقل من أي شراب كان يعتبر مسكراً لا يؤخذ به من أقر وهو في مثل هذه الحالة ولهذا فإن حال المتهم يجب أن تدرك جيداً يدركها الحاكم كما يدركها غيره ممن له نظر الحال حاضراً أو غائبا فإيقاع الجزاء الحاصل يجب أن يكون في محله على المتهم إن ثبت في حقه ما يدان به وإلا فلا إيقاع للجزاء اصلاً بمجرد الظنة الواردة الممكن دفعها اخذاً بقاعدتنا السابقة: درء الحدود بالشبهات. ومتى كان ناظر القضية في حال الانشغال. وقد جربت هذا بنفسي حال الفتوى والجلوس للناس فوجدت الخير كله في الفراغ إلى ما أنا فيه الآن، حيث ازدادت المسؤوليات اليوم فمن طالب للفتوى إلى طالب حل لمشكلته الى مكروب يريد يداً تنظره وتواسيه.
وبالنظر الى حال الإقرار من المجنون وزائل العقل بسبب حاصل غير الجنون الأصلي فإن الإقرار من المكره يساوي الإقرار ممن لا يصح منه الإقرار كما قلنا آنفاً والمكره قلت هو: الإنسان الذي يقهر بالقوة النافذة على الاعتراف بشيء ما. والمراد بالإكراه الفعل يفعله الإنسان بغيره فيزول رضاه أو يفسد اختياره، وقيل هو: ما يفعل بالإنسان مما يضره أو يؤلمه. وقال آخرون في حد الاكراه هو: أن يهدد المكره قادر على الإكراه بأي نوع من أنواع العقوبة وقال لي والدي الإكراه رؤية الموت وإلا فلا والمقر كرهاً لا يؤخذ بإقراره لقوله تعالى: {إلاَّ مّنً أٍكًرٌهّ وّقّلًبٍهٍ مٍطًمّئٌنَِ بٌالإيمّانٌ}، فالمتهم في حال نظره لا يناله عقاب أو جزاء وقد جاء في قصة عمار بن ياسر رضي الله عنه حينما أراده المشركون على الشرك فأبى عليهم فلما غطوه في الماء حتى كادت روحه تزهق أجابهم إلى ما طلبوا فانتهى اليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل يمسح الدموع من عينيه ويقول: «أخذك المشركون فغطوك في الماء وأمروك أن تشرك بالله ففعلت فإن أخذوك مرة أخرى فافعل ذلك بهم».
فالمكره على الإقرار ولا حيلة له بدفع الإكراه فإن إقراره ليس صحيحا ويجافي عنه حكم الشرع فلا يؤخذ إقرار إلا من أقر طائعاً مختاراً، وحاكم القضية عليه لازم نظر حال المتهم فإن غالب المتهمين تظهر عليهم علامات نفسية صادقة توحي للحاكم حقيقة أمره وما هو عليه، وقد أقر في مجلسي شاب أنه طلق زوجته وأنها خرجت من عدتها ولم يراجعها بعد فوجدت عليه امارات غريبة وكان معه نفر من أهله عمه وابنه واحد أبناء عمومته فخلوت بهذا الشاب وسألته فلم يكذبني ظني فإن والد زوجته الذي هو عمه هدده بالقتل ان يطلق لأنه على حد قول عمه يضربها وقد كسر لها سنا. فالمقصود أن إقرار المكره لا يتعلق بسببه حكم شرعي فلم أقض بالطلاق مع حصوله لفظاً. وقد جاء في السنن وغيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». فلفظة «وما استكرهوا عليه» تبين رفع الحكم عمن أقر كرهاً وهو مستطيع دفع الاكراه.
ونرى من هاتين الحالتين إقرار زائل العقل وإقرار المجنون أن الشريعة احتاطت في هذا جدا ونظرت الى التهمة حال حصول الأمر أنه وقع بسبب من الأسباب لكن مصدر هذا الأمر المحظور صاحبه مجهول وما دام الأمر على هذا فإنه لا يؤاخذ كل أحد بما حصل أنه هو فاعله وإذا ما أخذ أحد بعينه فإنه لابد من التثبت والنظر الواسع الدقيق، والسؤال المدروس سلفاً، لأن الأصل في حصول ما حصل أنه حصل لكن فاعله غير معروف ولهذا فتبقى براءة الذمة هي السارية ما لم يكن الاقرار الصحيح المعتبر أو الدليل الذي لا يمكن رده أو القرائن المتتالية المؤدية بالتتبع والنظر المكين الى حقيقة حصول المحظور من شخص بعينه أو أشخاص معينين.
والنائم لو أقر حال الاكراه فهو غير مؤاخذ بسببه بل لا يؤاخذ بما فعله أثناء نومه لأنه لا يتعلق بفعله حكم شرعي فسواء اكره على الإقرار أو لم يكره فهو قد فعل ما فعل نائماً كفاه ذلك عذراً ورد دليله. فلو مشى النائم وسقط على نائم فمات أو كسر شيئاً منه فهو غير مؤاخذ لرفع الحرج عنه، والنائم قد ثبت عن طريق البحوث النفسية الميدانية أنه يقول ما لا يقصده ويفعل ما لا يريد، جاء في كتاب «ما هي حقيقة هذه الظاهرة المرضية المشي أثناء النوم؟ إنها ظاهرة تظهر في عدد غير قليل من الناس وبدرجات متفاوتة بعضها لا يثير الاهتمام ولكن في بعض الحالات تكون الحالة سبباً في ازعاج الأهل والشخص الذي يسير وهو نائم». «وفي بعض الحالات يقوم من السرير ويمشي يفتح الباب.. يخرج..» «مثلاً يقوم بتكسير الأشياء أثناء نوبة الصرع».
وبالرجوع إلى كتب الطب النفسي في علاج هذه الظاهرة نجد عجباً فالنائم قد يقتل وقد يقود السيارة وقد يشتم ويضرب، فناظر القضية واجبه هنا سعة الاطلاع والتمكن الجيد من الدراسة التطبيقية والسؤال وطلب الرأي ما دام ينظر ويحكم في مجلس القضاء حاملا الأمانة مؤديها في لسان الحال ولسان المقال. ولا جدل أن معرفة حال القضية وملابستها وما يحيط بها من قريب أو بعيد وإدراك حقيقة الحال وطرق حصول ما حصل والصبر والمعاينة الثاقبة كل هذه امور تلزم ان يكون عليها. فهذا العصر الذي نحن فيه اختلفت العادات فيه وتنوعت الأمراض وضعف الإنسان امام المادة وطلب الجاه فلازم الحاكم معرفة الحقائق والاطلاع الواسع والتفرغ للقضاء وأحواله. ولاشك فالحاكم ما لم يكن بصيرا جدا محيطا بأحوال القضايا ونفسيات الناس مدركا الموانع والعوارض فإنه ملوم ولا كلام، وفي مجلس القضاء تكون له هيئة وهيبة دون مهانة ولا جفاء بل يكون سندا للضعيف حتى يقوى رادا لبطلان المبطل بتقوى الله والتوكل عليه. فمراعاة حال القضية وما يحيط بها وأسبابها والوقوف على معرفة الحال الحاصلة كل هذا يكون من القاضي. فإذا كان برئت الذمة فالاقرار من الأمور العظيم أمرها لأنه بحاجة الى إدراكه والوقوف على حقيقته وأنواعه ودليل كل نوع والإنسان في هذا تختلف طبيعته دون ريب. فمن قوي إلى ضعيف الى غامض إلى صريح واضح والقاضي هنا في إدراكه لكل هذا يفلح في حكمه ورضاه عن نفسه ما دام صادقاً مع الله سائراً في كل أحكامه على علم وبرهان.
|