تعد المعالجة النفسية بالنفور من أهم الطرق الفنية العلاجية لدى المدرسة السلوكية في ميدان العلاج النفسي، ولكن ما هو مبدأ هذه المعالجة وكيف تعتمد النفور؟.
إن مبدأ هذه المعالجة يقوم على النفور، حيث يعطى المتعالج مثيرات سلبية ومنفرة هذه المثيرات المنفرة من نتائج أو من تبعات السلوك الشاذ أو الاضطرابي الذي يسلكه المتعالج، وللتوضيح أكثر نسوق هذا المثال: لنتبع هذه الطريقة في معالجة شخص يشرب أو يدمن على الخمر، يمكن أن نعرض عليه شريط فيديو مضمونه أن أشخاصاً يشربون الخمر إلى درجة يفقدون بها السيطرة على اتزانهم العقلي والجسدي، ، ومن ثم بعد ذلك يصابون بحالة من القيء تترافق مع أقوال تظهر حالة الكبت لديهم، وبعض الاسرار الداخلية التي لوكان الشخص في حالة الوعي لامتنع عن الحديث بها وهي تظهر بطريقة غير مترابطة لدرجة أن سمع هذه الأقوال إذ جهل المسبب، يحكم على صاحبها بالاضطراب العقلي «الجنون»، وهنا عند هذا العرض يتولد في نفس المتعالج تدريجياً التغزز والنفور من المثير أو المسبب «شرب الخمر» الذي يؤدي إلى هذه النتيجة التي لا يرغب «المتعالج» في الوصول إليها.
إن ما ذكر آنفاً لشرح هذه الطريقة من جهة وللوقوف مع القارئ على بعض الآيات القرآنية التي دارت في فلك هذه الطريقة في المعالجة النفسية من جهة أخرى..
لقد وردت هذه الطريقة العلاجية النفسية في كتاب الله المجيد وهو الخبير بعباده وبما يصلحهم ويقوّم أنفسهم على الاستقامة قال تعالى:{وّأّسٌرٍَوا قّوًلّكٍمً أّوٌ اجًهّرٍوا بٌهٌ إنَّهٍ عّلٌيمِ بٌذّاتٌ الصٍَدٍورٌ. أّلا يّعًلّمٍ مّنً خّلّقّ وّهٍوّ اللَّطٌيفٍ الخّبٌيرٍ} [الملك: 13 - 14].
وليس بالإمكان بل من المتعذر أن نذكر كل الآيات القرآنية التي حملت مضمون هذه الطريقة العلاجية بمواقع كثيرة من كتاب الله المجيد بل نذكر بعضها فعلى سبيل المثال لا الحصر:
قال تعالى: {أّلّمً تّرّ كّيًفّ ضّرّبّ اللَّهٍ مّثّلاْ كّلٌمّةْ طّيٌَبّةْ كّشّجّرّةُ طّيٌَبّةُ أّصًلٍهّا ثّابٌتِ وّفّرًعٍهّا فٌي السَّمّاءٌ . تٍؤًتٌي أٍكٍلّهّا كٍلَّ حٌينُ بٌإذًنٌ رّبٌَهّا وّيّضًرٌبٍ اللَّهٍ الأّمًثّالّ لٌلنَّاسٌ لّعّلَّهٍمً يّتّذّكَّرٍونّ . وّمّثّلٍ كّلٌمّةُ خّبٌيثّةُ كّشّجّرّةُ خّبٌيثّةُ اجًتٍثَّتً مٌن فّوًقٌ الأّرًضٌ مّا لّهّا مٌن قّرّارُ} [إبراهيم: 24 - 26].
إن هذه الآيات تقوم على المقارنة التي تقود الى النفور النفسي من السيئ وبالوقت نفسه اتباع الحسن فالآية تقارن بين الكلمة الطيبة وهي كلمة التوحيد «شهادة لا إله إلا الله» وبين الكلمة الخبيثة وهي الكفر بالله، ولتزداد المقارنة وضوحاً وتنفيذاً من السيئ وترغيباً بالحسن قرنت الآية الكلمة الطيبة بشجرة طيبة مباركة محببة الى النفس دائمة الخضرة صيفاً وشتاءً وثمرها من أطايب الثمر وألذه، وقد شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الشجرة أنها شجرة النخيل، وبالمقابل قرنت الآية الكريمة الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، وهي ليست دائمة الخضرة بل إنها لها مواسم تحيي ثم تموت حتى تصبح هشيماً تذروها الرياح.
لاحظ هذه المقارنة حيث تؤدي شجرة النخيل الى الإقبال على الكلمة الطيبة «كلمة التوحيد» لما لهذه الشجرة من مكانة عظيمة لدى الإنسان عامة ولدى العرب خاصة، وبالطرف الآخر تساهم نبتة الحنظل في الإدبار والنفور لما لهذه النبتة من صفات منفّرة إذا ما قورنت بشجرة النخيل ولا يفوتنا أن نذكر أن الآية تذكر أنه {ويّضًرٌبٍ اللَّهٍ الأّمًثّالّ لٌلنَّاسٌ لّعّلَّهٍمً يّتّذّكَّرٍونّ}. فالأمر قائم إذاً على التذكر وهذا الأمر يقود الى المحاكمة العقلية بين الأشياء أو الأمثال أي أن الآية تطرق الجانب المعرفي العقلاني لدى الشخص، وتخاطب عقله ومعرفته للوصول به الى الاستقامة والصلاح، وهذا يلتقي مع نظرية العلاج العقلاني «لألبرت أليس» حيث يُحذف من الذهن الاعتقاد الزائف ويحل بدلاً منه الاعتقاد الصحيح حتى يزول التناقض ومن ثم يزول الاضطراب ويتماثل المعالج للشفاء.
وننتقل الى آية أخرى وهي: {يّا أّيٍَهّا الّذٌينّ آمّنٍوا إنَّمّا الخّمًرٍ وّالمّيًسٌرٍ وّالأّنصّابٍ وّالأّزًلامٍ رٌجًسِ مٌَنً عّمّلٌ الشَّيًطّانٌ فّاجًتّنٌبٍوهٍ لّعّلَّكٍمً تٍفًلٌحٍونّ} [المائدة: 90]
والخمر كل ما يخمر العقل «كحول، مسكرات، مخدرات ..إلخ» والميسر: القمار، والأنصاب: الأصنام، والأزلام: أقداح الاستقسام التي تشير الى أفعل أو لا تفعل في الجاهلية.
إن هذه الأشياء المذكورة سابقاً تخرج الإنسان عن طريق الاستقامة وتجعله يقترف أمراً يخالف فيه الفطرة من طرف وينال غضب الله من طرف آخر، فهي تسير في سبيل الشيطان لذلك الآية ذكرت ما ينفر من هذه الأشياء التي تخالف الفطرة والفاطر، حيث وصفتها بأنها رجسٌ أي أنها مستقذرة خبيثة والنفس تأنف القذر والخبيث وتصد عن ذلك، ولا سيما النفس المؤمنة التي خُصت بالنداء في هذه الآية وبالذات عند معرفة أن هذه الأشياء من عمل الشيطان، والشيطان يدعو الى النار وهو عدوٌ مبين فأي شيء أكبر من هذا التنفير للنفس المؤمنة حيث يقودها هذا التنفير الى الفلاح والنجاح والفوز بالجنة.
وثم ننتقل الى آية أخرى لعلها تكون أوضح وأبلغ في وصف طريقة المعالجة النفسية بالنفور في كتاب الله المجيد، حيث تقول الآية:{يّا أّيٍَهّا الّذٌينّ آمّنٍوا اجًتّنٌبٍوا كّثٌيرْا مٌَنّ الظَّنٌَ إنَّ بّعًضّ الظَّنٌَ إثًمِ وّلا تّجّسَّسٍوا وّلا يّغًتّب بَّعًضٍكٍم بّعًضْا أّيٍحٌبٍَ أّحّدٍكٍمً أّن يّأًكٍلّ لّحًمّ أّخٌيهٌ مّيًتْا فّكّرٌهًتٍمٍوهٍ وّاتَّقٍوا اللَّهّ إنَّ اللَّهّ تّوَّابِ رَّحٌيمِ} [الحجرات: 12]
إن هذه الآية تنفر الذين آمنوا من ظن السوء والتجسس والغيبة وتصل درجة التنفيذ الى درجة يستغربها الإنسان ولا يألفها وهي: {أّيٍحٌبٍَ أّحّدٍكٍمً أّن يّأًكٍلّ لّحًمّ أّخٌيهٌ مّيًتْا فّكّرٌهًتٍمٍوهٍ} إذ إن النفس البشرية تأبى أكل الجيف بشكل عام، ولا يمكن للإنسان أن يستلذ ولو بالخيال وهو جالسٌ على وجبة الجيف وحتى إذا أمكنه تخيل ذلك ربما أدى به الأمر الى القيء من دون أن يدخل في هذه التجربة، فماذا يحدث إذا دخل هذه التجربة بشكل علمي، وهذه التجربة ليست على جيفة حيوان بل هي على جيفة إنسان، فلا شك أن هذه الطريقة النفسية في التنفير تبلغ هنا ذروتها بحيث يصعب على الإنسان حتى تصورها لا الدخول فيها.
إن وقع هذه الآية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقعاً عملياً، حيث يروى أنه جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد زنا وكرر ذلك «أي أنه زنا» على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مرات حتى استجاب له، وذلك بأن يقيم عليه الحد وعندما تأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم من انه وقع في الزنا فعلاً أقام عليه الحد ورجمه بعد ذلك سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر الى هذا الذي سند الله عليه، فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب؟.
ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مرَّ بجيف حمار فقال: «أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيف هذا الحمار» قالا: غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا الحمار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها».
تأمل كيف يمارس رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الطريقة في معالجة النفوس التي أصابها مسٌّ من الإثم بشكل عملي يجسد فيه الآية الكريمة آنفة الذكر مما يجعل الشخص يعود الى جادة الحق بعيداً على الانحراف والشذوذ.
فليتأمل الإنسان عندما يقرأ القرآن ويمر على مثل هذا المضمون الذي نحن بصدده، وما أكثره في كتاب الله، فتأمل مثلاً وأنت تقرأ قوله تعالى: {ولا تّقًرّبٍوا الزٌَنّى" إنَّهٍ كّانّ فّاحٌشّةْ وسّاءّ سّبٌيلاْ} ثم تأمل بعدها التنفير في الآية من جهة وحقيقة على أرض الواقع بعد اكتشاف المرض العقيم بالنسبة للشفاء «الإيدز» من جهة أخرى.
بالنهاية فإن صفوة المراد أن نقول: {إنَّ فٌي ذّلٌكّ لّذٌكًرّى" لٌمّن كّانّ لّهٍ قّلًبِ أّوً أّلًقّى السَّمًعّ وهٍوّ شّهٌيدِ}.
( * ) جامعة دمشق |