حلقات كتبها وصورها حمّاد بن حامد السالمي ومحمد آل ماضي
عدد من المنازل الطينية القديمة
نختتم اليوم رحلتنا التي صحبناكم بها إلى رنية وفي حلقة اليوم نزور بيت التراث ونتعرف على بعض المأكولات والفنون الشعبية كما ننقل عدداً من مطالب أهالي رنية.
استراحة التراث
إذا أردت أن تعرف رنية؛ فاذهب إلى «استراحة التراث الشعبي»، لصاحبها سعد بن محمد بن عبيد الدوسري.. إنها مبادرة شخصية موفقة وشجاعة، أن يهتم مواطن ببلدته فيوقف جهده ووقته وماله من أجل تكوين متحف متكامل، يعرض آثارها وتراثها ومآثرها، ويؤالف بين ماضيها وحاضرها، ويقرب للباحثين وأبناء هذا الجيل، تاريخها العريق عبر العصور.
توجهنا إلى حيث الاستراحة التراثية، وراح شبيب مبارك السبيعي، رئيس فرقة الفنون الشعبية الذي رافقنا وساعدنا كثيراً يدق على الباب، ثم يلتفت إلينا مذكراً بشعر قديم قدم رنية نفسها. قال:
طقيت عند الباب لين أصرف السيف
يا باب ما نيّة هلك يفتحونك
ثم يواصل من شعر آخر وقد أرانا رأس بير وسانية عليها من طرف الاستراحة:
يا ليت راس المجرة حشية
ويا ليت صباب الغروب حليب
وكان هذا الشعر، فاتحة لفتح الباب، حيث وجدنا صاحب الاستراحة سعد بن محمد الدوسري، وكذلك الأستاذ الشاعر محمد بن سعيد السليل.
متحف ناطق..؟!
لقد كانت مفاجأة حقيقية بالنسبة لي، فهذا متحف رائع يكاد أن ينطق بما حواه من كنوز وتراث وآثار، ولأني أعجز هنا عن وصفه، أترك ذلك للشاعر محمد بن سعيد السلسل، الذي هزه الفرح بهذا الإنجاز يوم افتتاحه، فنظم فيه قصيدة جسدت محتوياته ومكنوناته، فيقول:
بو محمد نوى جمع التراث
وخصص الدار ملفى للوفود
نشكره ونتفاخر به جميع
فكرة رايده تبغى العضود
جمَّع اللي مضى حتى نشوف
كل ما أبدعه فكر الجدود
هذا رمحٍ وذا خنجر وسيف
جالها في الدين وقع وردود
وهذا سرج وذا مرسن وسوط
عاصرت شجعان جدودنا بزود
وهذا نجر ومدخن وملقاط
غازلت عين المسيِّر بلا حدود
وإن ذكرنا الضيافة ما تكفيها السطور
فكل مربع وبيت تزدحم بالجلود
هل عرفتو الخوص والسفيفة والمهاف
وهل عرفتو الرشا والمرس والقيود
آه يا ماضي حفر له ذكريات
يرفع الرأس ويذكرنا بالجدود
ما حلى ريح الدباغ وخنة بالرشوش
وما حلى العين بالبرقع تذود
وما حلى الشمسه مع الزميم والخروص
لا بدت في وجه ما شافه حسود
هل عرفتو الفخ والكفة والطبول
وهل عرفتو الشعر والطرق والمهود
هل عرفتو المجره والقف والزهاب
والسرب والسواني في صدود ورود
هل شربتو ماء القرب وجغمة الزير
والشنَّه اللي تفطر برد وبرود
هل فتلتو السين أو غزلتو الشعر
وهل تلحفتو مضرب وافترشتو جعود
يا مسيّر للتراث كم أعدد وكم أقول
هذا ما عندي وهات ما عندك وزود
قالها السلسل يذكر من نسا
ويقرع الناقوس مشاركة يا وفود
حديث المتحف
بعد جولة داخل المتحف، والتعرف على محتوياته ومقتنياته، أجرينا هذا الحوار القصير مع صاحبه. حيث يذكر عن فكرة التأسيس أن رنية محافظة تاريخية قديمة يعيش فيها عدة شرائح اجتماعية كالفلاحين والرعاة والحاضرة. ولكل فئة منهم موروث وتراث يختلف عن الآخرين. ولخوفي على انقراض هذا الموروث وحبي له تكونت عندي هواية جمعه بالإضافة إلى التقدم العمراني والنهضة الحديثة التي حلت محل هذا التراث وسببت له الانقراض لأن المواطن استبدل بالآلة القديمة أشياء حديثة واستبدل ببيت الشعر والعشة وبيت الطين المسلح، وأول قطعة هي صندوق المرأة القديم «الشنطة» من رنية. ثم بدأت أجمع باقي مفردات متحفي كما تشاهده معروضا أمامك وهو متحف لكل أهالي رنية وعن توزيع المسميات وزعت هذه الأشياء كما تشاهد منها ما يخص القهوة العربية مثل الدلال وما يرتبط بحياة المرأة وكذلك السلاح القديم وما يرتبط بحياة الفلاح وكذلك البادية والآلات الإعلامية القديمة مثل الراديو وكذلك بعض اللوحات ويوجد أشياء كثيرة في المتحف مثل النجر والمحماس والمذياع القديم والمكواة والثوب المرادن والقربة والعيبه وبعض المنسوجات الصوفية والفانوس والسراج والتريك وغيرها الكثير.
وتتنوع المحتويات وينفرد بمسميات عديدة لا يمكن حصرها منها ما هو للكرم كالدلة والمحماس والعودة والمنفاخ والصفحة والصياني والميزانه والسفرة. ومنها ما هو لمتاع وأثاث الأسرة كالصندوق والعيبه وبيت الشعر والمخثلة والمزودة والجراب والخصف (بساط من سعف النخل). ومنها ما هو للزينة كالشمس والزمام والخروص والرشوش والقلادة وهناك ما هو للتراث الشعبي مثل الطبل والشعر ولباس العرضة وحيث ان سعود بن سعد بن جهيم شاعر يقول الشعر ويحفظه نورد لكم أبياتاً من قصيدة له في العرضة السعودية قالها في مهرجان الجنادرية لعام 1417هـ:
مملكتنا منبع الدين من عهد قديم
من على وقت الصحابة رفيع شانها
دارنا مهد الرسالة وذا شي عظيم
الوفا والخير فيها وفي سكانها
جعل أخو نوره يخلد بجنات النعيم
الشجاع اللي بسيفه حمى حدانها
خادم البيتين عادل وفي رايه حكيم
هو سندنا حامي الدار عن عدوانها
مع ولي العهد عبدالله الشهم الكريم
غيث للشعب السعودي طويل إيمانها
اذكروا سلطان سلطاننا ضد الخصيم
هو وزير الجيش مروي لحد أسنانها
وشاعرنا سعود بن سعد بن جهيم يحفظ قصيدة لشاعر قديم اسمه سعود بن خميره وهو يقيم في مكة ويتمنى الرجوع لدياره رنية:
أظن في خاطري بازور أنا الديرة
بزورها كان رب البيت عافاني
يا الله أنا طالبك وسالك أنا الخيره
انك تسهل طريقي صوب خلاني
نبغى ديار إذا هبت معاصيره
عجاجها عندنا مسك وريحاني
هني من شاف مقعد في بناديره
وألفى على القوز حيثه عندنا غالي
وخطمى تراها بعد من قبلة الديره
بشاهد العرق منها هو وكلاني
المثلوثة.. رنياوية..!!
وما دمنا في الكلام على التراث، فلماذا لا نتطرق إلى أشهر أكلة هنا وهي المثلوثة..؟! عرفت المثلوثة في الرياض قبل سنوات، وقيل لي بأنها تعود إلى أهل الرياض. وقال آخرون: بل هي من القصيم. ثم قال ثالث: اسمها مثلوثة فهي من تثليث أو الليث..! قلت: لعلها فذلكة لغوية. حتى وجدت أن أهل رنية هنا، يتمسكون بحقوق الاكتشاف، فهم يؤرخون لها حتى لم يعد من مجال لكلام لواحد من الرياض أو القصيم أو تثليث أو غيرها.
ويذكر ناصر بن سعيد آل قطنان رئيس مركز التنمية الاجتماعية: لقد شاعت المثلوثة كوجبة عصرية من الماضي القريب لكنها بعيدة كل البعد عن مثلوثة سبيع وان تشابهت في واحد من المكونات وأول ما يتبادر للذهن عن المثلوثة أنها مكونة من ثلاثة أشياء هي:
1- تمر السرى، نوع من التمر له شكل مميز دهني الملمس وسكري الطعم.
2- اللحم.
3- البر.
أما طريقة التقديم:
- تفرش السفر وتعرف برنيه السفر المداوير من سعف النخيل وينثر التمر «فذ بدون حشي وغير ناشف» وعادة يجني «يخرف» في الحال على أطراف السفرة.
- توضع سحال «غذاره» في منتصف كل سفره مليئة بالمرق «صفو الذبيحة»، يقوم الحضور بفتح التمرة وجعلها كالفنجان «فنجان القهوة» للعلم سري رنيه أجود وأكبر أنواع السري.
وتستعمل التمرة كفنجال أوفنجان تملأ فتحة التمرة بالمرق وتؤكل بالحال «ما أحلى تلك الأيام» وهكذا لا ترد التمرة بل تستبدل.
- بعد ذلك تقدم المفطحات ويكون عيشها غالباً (بر) لأن إنتاج رنية ومأكولها بر في العصور الماضية ولعل أشهر منطقة تنتج البر هي مزارع الرجع برنية وحل محله الرز والبر يقدم غالباً ما يعرف بالمراصيع أو الفتة، وللعلم فإن المثلوثة أيضاً تدعيها قبيلة عنزة والدواسر وكل القبائل بها خير ولعل لكل قبيلة طريقة في تقديمها.
فنون متميزة
وانطلاقاً من متحف رنية، شاهدنا وصلات متلفزة من عروض فرق الفنون الشعبية في رنية بملابسها الجذابة وألحانها الرنانة، وحركاتها المعبرة وكلماتها البليغة، وكان شبيب بن مبارك السبيعي المشرف العام على الفنون الشعبية والتراث معنا، فقد اطلعنا على تقارير توضح نشاطات الفرق ومساهماتها في الجنادرية والمناسبات الوطنية، وجهودها في إبراز آثار وتراث هذه المحافظة، ومن حسنات هذه الفرق، أنها حفظت ألحاناً وأشعاراً ومظاهر شعبية فنية، ما كان لها أن تحفظ لولاها.
وتوثيق جيد
ثم أطلعني الأستاذ شبيب السبيعي على مخطوطة من كتاب جمعه عنوانه «رنية: تاريخ - تراث - موروث - حضارة»، وقد أعجبتني الفكرة لما لها من دور في التوثيق العلمي لرنية، التي لم تحظ بمثل هذا الجهد حتى يومنا هذا، ولعل الأخ شبيب ومن معه من المثقفين هنا، يطورون هذه الفكرة، فتكون في شكل موسوعة «تاريخية جغرافية أدبية، اجتماعية فنية»، وفقهم الله وسدد خطاهم.
سَهَر مع صَهر..!
في الليلة التي بتها في رنية، لم يكن سميري بعد سمر الأصدقاء والأصحاب هناك سوى جبل صهر..!
نعم.. منذ الصباح، والزميل محمد آل ماضي - سامحه الله - يشهر في وجهي برنامج الزيارة، وكأنه سيف مسلط على رقبتي، فإذا ركبنا السيارة وسرنا هنا أو هناك، أشار بيده إلى طود عظيم جهة هضاب الكور وهو يقول: انظر.. هذا جبل صهر..!
ولكثرة مرات ذكره، أصبح يلازمني لفظا فأجدني أردد دون مناسبة صهر.. صهر..! وقلت: لعله أخذ اسمه من الصهر.. إذابة الشيء أو تحويل الصلب إلى سائل، فهو جبل صخري فيه ملاسة، ولعله يشوي الجلود ويصهرها..!
ثم وجدت أن الأستاذ سعد فواز البخيت قد أفرد مبحثاً عن جبل صهر هذا، فذكر فيه شعراً للشيخ عبدالله بن خميس قوله:
يا جاثما بالكبرياء تسربلا
هلا ابتغيت مدى الزمان تحوّلا
شاب الغراب وأنت جلد يافع
ما ضعضعت منك الحوادث كاهلا
ترنو إلى الأجيال حولك لا تني
تترى على مر العصور تداولا
إلى قوله:
يا أيها العملاق زدنا خبرة
عمن أقاموا في ذراك معاقلا
واقصص علينا اليوم من أخبارهم
ما ثم من أحد يجيب السائلا
كان هذا المبحث سميري ومسامري قبل المنام. وقد رأيت كيف أن الشاعر الكبير أحمد بن إبراهيم الغزاوي قد تفاعل مع شعر ابن خميس فقال:
جبل على فوديه طامنت السهى
من جانبيها فازدهى وتغزلا
ترنو إليه الشمس وهي حريصة
ألا تشع على سواه وقد تلا
إلى قوله:
وكأنما أرسى الجزيرة كلها
طود اليمامة راسخاً ومكللا
ثم يقول بعدها الشاعر سعد البخيت:
يا شامخاً من بطن رنية واعتلى
هلا بنجد كان مثلك أطولا
شهدت لك الأحداث حين تداولت
وأراك صلدا ما رضيت تبدلا
في بطن واديك معاقل معشر
تبدو وشادوا للكرامة منزلا
مطالب من رنية
في ختام هذه الحلقات؛ سوف نلخص ما سمعناه وما لمسناه في رنية، وكل ذلك يعد من المطالب التنموية الوجيهة، ومن الهموم اليومية في محافظة يانعة متطورة.
من أهم الملاحظات التي وجدتها أن رنية بعيدة عن مدن المنافذ الجوية فأقرب مطار لها هو مطار بيشة، ويبعد 170 كيلاً. ووجود مطار هنا، سوف يسهم في نمو هذه الديار بشكل كبير.
ووجدت الناس هنا، يتكلمون على نواقص كثيرة تحد من كفاءة المستشفى العام، فهو فقط 30 سريراً، وليس به عناية مركزة، ولا حضانة ولا تحاليل ولا طبيب عظام، ولا بنك دم. ثم هل هذا مستشفى حقا..؟!
وفي مراكز مثل الضرم والعماير والعثيثي والدار والبيضاء؛ لا يوجد مراكز صحية.
أما في الجانب التعليمي؛ فهناك كلية مجتمع بنات لدبلوم الحاسب فقط، ومن المهم تنويع التخصصات ورفع المستوى إلى بكالوريوس.
وفي كل صباح تنطلق أربع حافلات لنقل طالبات يدرسن في كلية التربية في بيشة على بعد 170 كيلاً، ثم يعدن مساء..! والحال يتطلب كلية تربية، لهن ولمئات ينتظرن الدراسة فيها.
ومن الطلاب من ينتظر كلية للمعلمين لمواصلة الدراسة.
إن الحديث عن التعليم يطول، فأنت تسمع من يقول: لا يوجد معهد مهني، لا يوجد معهد علمي، لا يوجد كلية تقنية إلى غير ذلك، مما يتطلب دراسة مستفيضة لحاجة رنية من المؤسسات العلمية والتعليمية.
لا يوجد.. لا يوجد..!!
سمعتها مرات ومرات هنا:
- لا يوجد جوازات.
- لا يوجد مكتب عمل وعمال.
- لا يوجد مالية.
- لا يوجد غرفة تجارية.
- لا يوجد أمن طرق وهلال أحمر.
- لا يوجد متنزهات أو متنفسات.
- لا يوجد بث تلفزيوني في الأملح.
- لا يوجد شبكة جوال في الضرم.
- لا يوجد حماية للآثار.
إن لا هذه موحشة إلى حد كبير، فهل بالامكان الحد منها، وتخفيفها، وتحويل الممكن منها إلى نعم..؟!
طريق مجدور..!
من مشاهداتي في هذه الرحلة إلى رنية، الطريق الرابط بينها وبين الخرمة، إنه طريق مصاب بالجدري..! فهو على ضيقه وقدمه وعدم صيانته، يبدو وكأنه خلجان محفورة لاختبار السيارات..!
رأيته عند القدوم فراعني، وعند العودة قبيل الغروب راعني أكثر، فقد شاهدت الحوادث وآثارها عياناً بياناً على جانبيه. سيارات مقلوبة وأخرى مصدومة، ودماء على الأسفلت، وجمال تموت منبطحة تحت أقدام التريلات هنا وهناك.
متى ننتبه إلى خطورة مثل هذا الطريق على أرواح الناس وحياتهم..؟!
إن الروايات حول هذا الطريق كثيرة لا تنقطع. وهناك روايات خيالية عن طريق ترابي يربط رنية بوادي الدواسر، فهو مطروق بكثرة، لكنه محفوف بمخاطر عظيمة في مقدمتها؛ التيه في الصحراء والضياع والعطش..
|