* واشنطن - هوارد لافرنشي ووارن ريتشي*
وهكذا أسدل الستار، مثلما يحدث مع نهاية أي فيلم أو مسرحية، بانتهاء قصة «طاغية بغداد» نهاية مأساوية إذ لم يتم العثور على صدام إلا وحيدا مكسورا بعد ضياع الجاه والسلطان والحكم داخل حفرة تحت الأرض، على مشارف مدينة تكريت العراقية مسقط رأسه وهي المدينة التي انطلق منها إلى حكم العراق بالحديد والنار لاكثر من 30 عاما.
ومن الأهمية بمكان إدراك ملايين الناس في العراق خاصة ومنطقة الشرق الأوسط عامة بالحالة المزرية التي آل إليها واحد من أكثر طغاة القرن العشرين دموية عندما وقع في أسر القوات الأمريكية.
فقد بدأت عملية اقتلاع صدام حسين من السلطة منذ اللحظة التي تحطمت فيها تماثيله بالمعاول والتفجير والركل بالأحذية أواخر أبريل الماضي.
غير أن صدام الآن محتجز لدى الجيش الامريكي، ولن تكتمل المهمة الحاسمة للتخلص منه نهائيا إلا بتشكيل محاكمة لتحاكمه على الجرائم المنسوبة إليه.
وبالطبع فإن تلك المحاكمة ستعمل على إعطاء بعض الإحساس بالعدالة للشعب العراقي الذي ظل يعاني تحت حكمه لأكثر من 30 عاما، ورغم أن المسؤولين الأمريكيين في العراق صرحوا بأنه بدأت بالفعل صياغة التفاصيل التي سيتم بناء عليها تقديم صدام حسين للعدالة بينما قال زعماء عراقيون إن صدام سيحاكم في محكمة عراقية ربما أمام المحكمة التي أنشأها مجلس الحكم الانتقالي العراقي الذي نصبته واشنطن وذلك للنظر في جرائم النظام السابق.
عراق ديمقراطي جديد
يقول عدنان باجه جي عضو مجلس الحكم الانتقالي والذي يتولى الرئاسة الدورية للمجلس الشهر الحالي إن محكمة مدنية عراقية ستحاكم صدام على ما اقترفه من جرائم ضد الانسانية وارتكبه من جرائم حرب.
وأضاف باجه جي أن صدام وزعماء عراقيين آخرين سيقدمون للمحاكمة حتى يظهر للعالم ديمقراطية وحرية العراق الجديد .. إنها لن تكون محاكمة من أجل الثأر والانتقام، بل ستكون محاكمة عادلة.
وحتى في ضوء السمعة التي اكتسبها صدام عالميا كزعيم متوحش، فإنه من المهم للغاية بالنسبة لمستقبل العراق والقيمة التاريخية للمحاكمة أن تخرج محاكمته بصورة عادلة ونزيهة تماما أمام كل من الشعب العراقي وشعوب المنطقة بأسرها.. هكذا يقول خبراء قانونيون.
علاقة مشبوهة
ولاشك أن محاكمة صدام تمثل مخاطر محددة أيضا ولاسيما للولايات المتحدة، وبادئ ذي بدء فإن السؤال الشائك عند تلك النقطة يركز على الكيفية التي سيتم بها تناول علاقات واشنطن «المشبوهة» السابقة مع الديكتاتور الذي نفذت هي نفسها عملية الإطاحة به في نهاية المطاف.
وبعد، فإن محاكمته ستخدم هدفا جوهريا وهو تذكير العراقيين والعالم بما كان عليه وضع صدام سواء في العراق وفي المنطقة وبين الزمرة من ديكتاتوريي القرن العشرين وطغاته.
يقول بروس جنتلسون خبير شؤون الشرق الأوسط بجامعة دوق حتى في منطقة حيث تدور منافسة شرسة حول الكيفية التي يمكن أن يكون عليها ديكتاتور مخيف ووحشي، فإن صدام يحتل قمة القائمة بلا منازع مقارنة بأقرانه ومن هم على شاكلته.
ذاكرة التاريخ
ولا نبعد عن الحقيقة إذا ما قلنا إن صدام سيظل في ذاكرة التاريخ لسنوات طويلة قادمة بسبب ما ارتكبه من أعمال شنيعة ضد شعبه، من قتل مئات من الأكراد العراقيين بالغاز إبان الثمانينات إلى محاولاته الأخيرة الأخرى لإبادة عراقيين جماعيا في مستنقعات جنوبي البلاد.
غير أن كثيرا من الخبراء يقولون إن صدام يبز أقرانه من الحكام المستبدين في جزئيتين محددتين من حكمه : هما فترة حكمه الطويلة سواء كحاكم استبدادي للعراق أو باعتباره القوة المحركة وراء أحداث جسيمة وطبيعة شخصيته الحقودة الوحشية.
تولى صدام السلطة رسميا في العراق عام 1979 عندما أصبح رئيسا لكن بداية حكمه الواقعي كانت مع اعتلاء حزب البعث السلطة في عام 1968، ومثل غيره من الطغاة، لم يعتمد في إدارة حكمه سوى على حفنة من أهل الثقة.
ولتوضيح الوحشية التي يتميز بها صدام عن أي طاغية آخر من أقرانه، يحكى في منطقة الشرق الأوسط أن صدام لو وجد نفسه أمام خصم سياسي عنيد، لكان قد استقل الطائرة وقذف خصمه منها بنفسه، بينما أي طاغية آخر سيأمر فقط باقتياد خصمه على متن مروحية كي يتم إلقاؤه منها وهي على ارتفاع شاهق، وذلك على حد قول جنتلسون الذي يضيف أن القصة تعطي صورة واضحة عن رؤية سكان المنطقة لصدام.
وحقيقة، فإن مثول صدام أمام محكمة لمحاكمته في العراق يمنح الولايات المتحدة فرصة صرف الانتباه عن تدخل جيشها في هذا البلد وتركيزه على قسوة النظام السابق. ولابد أن هذه المحكمة لن ينقصها شهود العيان أو الأدلة الدامغة الموثقة على الكفاءة الوحشية التي حكم بها صدام العراق طيلة السنوات الماضية.
غير أن محللين قانونيين يحذرون من أنه لن يكون من اليسير ضمان اعتراف العالمين العربي والإسلامي بأن محاكمة صدام ستخرج نزيهة وعادلة.
التشكيك في المحاكمة:
يقول ديتليف فاجتس وهو خبير في القانون الدولي بكلية الحقوق بجامعة هارفارد: ناهيك عن مسألة أنه مذنب وهي مسألة لايساور أي إنسان الشك تجاهها، فإن هناك فئات من الناس الذين سيبدون تشككهم حيال المحاكمة ولاسيما إذا طفت بصورة واضحة للعيان آثار العلاقات السابقة لامريكا بصدام أثناء نظر القضية.
وكان مسؤولون بقوات التحالف قد أشاروا إلى أن صدام سيحاكم أمام محكمة عراقية بهيئة قضاة عراقيين، غير أن كثيرا من الاسئلة لاتزال بدون أجوبة حتى الآن.. منها هل سيسمح لصدام بتوكيل فريق من محامي الدفاع الماهرين؟، ومن كبير القضاة الذي سيرأس هيئة القضاة في محاكمة ربما تشتهر قريبا بلقب «أم المحاكمات».
وغني عن القول توضيح حقيقة ان كثيرا من العراقيين ذوي المهارات القانونية المميزة ربما كانت تربطهم علاقات وطيدة بالنظام البائد. وقد وصل عراقيون آخرون إلى البلاد من المنفى وربما ينظر إليهم العراقيون بعيون الريبة والشك.
صدام وهتلر
والاخطر أن يفترض المرء أن كل ما حدث في العراق إبان حكم صدام يمكن أن يتحمله والمسؤولية عنها جميعا ويقول فاجتس ربما سيكون من الصعب على المحكمة إثبات تحمل صدام المسؤولية عن كل ما جرى في عهده من أحداث.
ويضيف خبير القانون الدولي ان ممثلي الادعاء ربما يسعون لتحميل صدام المسؤوليةعن الهجوم بالأسلحة الكيماوية على قرية حلبجة الكردية في مارس عام 1988.
لكن توجيه التهمة بهذا الشكل في محكمة قانونية سيتطلب تقديم أدلة دامغة ومثل هذه الأدلة ربما لاتتوافر، ضاربا المثل بأنهم لم يعثروا أبدا على قصاصة ورق واحدة من أدولف هتلر أمر فيها بإبادة اليهود.
ويضيف محللون أن ربط صدام بمثل هذه الجرائم والفظائع ربما يستلزم إبرام صفقات قانونية مع بعض من كبار مسؤولي صدام لاقناعهم بالاعتراف على زعيمهم السابق مقابل تخفيف الاحكام الصادرة ضدهم.وثمة خطر محتمل آخر هو أن يحاول صدام استغلال المحاكمة لقلب المائدة على الولايات المتحدة وآخرين كانوا في يوم من الايام أحد أبرز حلفائه إبان الحرب الايرانية-العراقية.
يقول فاجتس ربما تسبب صدام في إحراج رموز لاحصر لها إذا أراد إطلاق النار على الجميع بكامل أسلحته.
أما هوشيار زيباري وزير خارجية العراق فيؤكد أن محاكمة صدام سترضي كثيرا من الناس وكثيرا من ضحاياه، مشيرا في حديث له من باريس مع محطة تليفزيون سي.إن.إن الاخبارية الامريكية إلى أن المحاكمة ستتسم بالشفافية والعدالة والانفتاح والصراحة.
* خدمة «كريستيان ساينس مونيتور» - خاص ب «الجزيرة» |