في مقابلة أخيرة مع الشاعر «محمود درويش» أجراها الشاعر اللبناني المميز «عباس بيضون»، قال درويش «من الخطر مقارعة الحرب وأدواتها بلغة الشعر، ان عملية التعبئة الدائمة للغة الشعر وملئها بالمفردات الحماسية الملتهبة، يجعلها تخسر بعدها الشعري ولا تستطيع هزيمة أدوات الحرب والمنازلة»، فهو يرى بأن عملية التعبئة الشعرية التي يحتشد بها التاريخ الشعري العربي خلقت نوعاً من الخيال الذي يطفو على الواقع وبالتأكيد لا يعكسه.
ولعل الشاعر درويش هنا يقصد ذلك الحماس الذي يتخلل نسيج الشعر العربي ويكرسه كأحد أدوات المعركة على حساب الجميل والإنساني والخالد في الشعر. ولربما هذه إحدى ملامح الهزيمة العربية التي تتكشف عن واقع بعيد كل البعد عن ذلك الحلم الطوباوي الذي تقدمه قصائدها الشعرية عن أمة خالدة ذات قوة وسطوة. بل ان تغييب البعد الإنساني والجمال الشعري «بأبعاده الفكرية والفلسفية» عن القصيدة هو الذي خلق كبيراً من الغربة بين الشاعر وجمهوره، وكأن هذا الجمهور سئم من عملية تزوير كبرى تمارس منذ عدة قرون ضد وعيه وتفكيره ومستقبله باسم الشعر.
وإن كان الشعر قد ساهم بدور كبير في المؤامرة التغيبية «لاحظوا الأبيات الركيكة التي يذيل بها الإرهابيون بياناتهم أو وصاياهم» فإنه اخترع لغة خطاب منفصلة عن الواقع وقابعة في عالم فوقي غامض وقصي، وغير قادر على استجلاب اللغة من أبراجها العلوية الغامضة وإدماجها في اليومي بالتفاصيل الإنسانية الصغيرة التي تبرز التفاف الجميع حول شجرة الوطن في أزماته، أو المنجز الحضاري للفرد السعودي والإصرار على الاستمرار على الرغم من وحوش الظلمة وقطيع الضباع المتربص، ولربما الحلم الذي لا يتوقف عن الخفقان في صدر كل معلمة تتنكب الطريق الصحراوي كل يوم وتذهب للبحث عن حلمها الخاص، جميع هذا يصنع قصيدة خالدة ونادرة.. وحقيقية.
|